يتحول كل حدث في ألمانيا تذكر فيه فلسطين أو غزة أو إسرائيل إلى مناسبة للتأكيد على دعم تل أبيب، وإطلاق الاتهامات بـ"معاداة السامية". وفي الآونة الأخيرة تبرز هذه الموجة في الأحداث الثقافية، وكان آخرها مهرجان برلين السينمائي الدولي المعروف بـ"برلينالي"، بعدما تحدث مخرج فاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي عن الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل والإبادة الجماعية في قطاع غزة، ما دفع إلى موجة ردود أفعال إسرائيلية وألمانية، كان من بينها التراجع عن "التصفيق للكلمة".
وبدأت حكاية الحدث الأخير، بعد ظهور المخرج الإسرائيلي يوفال أبراهام، برفقة الفلسطيني باسل عدرا، على منصة المهرجان، من أجل إلقاء كلمة بعد حصول فيلمهم الوثائقي "لا أرض أخرى"، والذي يتناول سعي إسرائيل إلى تهجير مسافر يطا جنوبي الضفة الغربية، على جائزة أفضل فيلم وثائقي. وفي كلمته، تحدث يوفال عن الفرق بينه وبين باسل، داعيًا إلى إنهاء الفصل العنصري، ومطالبًا بإيقاف إطلاق النار في قطاع غزة.
عمدة برلين وصف كلمات مخرج إسرائيلي بأنها "معاداة للسامية"، ومفوضة الثقافة الألمانية تعلن عن عدم تصفيقها للمخرج الفلسطيني
وقال يوفال: "في غضون يومين، سأعود أنا وباسل إلى أرض لسنا فيها متساوين. أعيش في ظل القانون المدني، وباسل في ظل القانون العسكري. نعيش على بعد 30 دقيقة من بعضنا البعض، لكن لدي حقوق التصويت، وباسل لا يملكها. أنا حر في التحرك حيث أريد في هذه الأرض، لكن باسل، مثل ملايين الفلسطينيين، محبوس في الضفة الغربية المحتلة. هذا الوضع من الفصل العنصري بيننا، وعدم المساواة، يجب أن ينتهي".
وقال باسل عدرا، خلال الحفل يوم السبت الماضي، إنه "ناضل من أجل الاحتفال بنجاح فيلمه، بينما كان الناس في غزة يُذبحون ويُذبحون"، وحث ألمانيا على وقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل.
كما سلطت الصحف الألمانية الضوء على كلمة ألقاها يوم السبت، المخرج الأمريكي بن راسل، الذي شارك في الفوز بجائزة في المهرجان. وظهر على خشبة المسرح وهو يرتدي الكوفية، وندد بـ"الإبادة الجماعية" في غزة.
مكارثية ألمانيا
وفي أعقاب المهرجان، انطلقت موجة ألمانية من "الانتقادات"، إذ وصف عمدة برلين كاي فيجنر، الخطابات في حفل اختتام برلينالي بأنها "لا تطاق". وكتب فيجنر على منصة "إكس": "المسؤولية الكاملة عن المعاناة العميقة في إسرائيل وقطاع غزة تقع على عاتق حماس".
وتابع فيجنر: "لا مكان لمعاداة السامية في برلين، وهذا ينطبق أيضًا على المشهد الفني. أتوقع من الإدارة الجديدة لبرلينالي، أن تضمن عدم تكرار مثل هذه الحوادث مرة أخرى"، وفق قوله.
ورغم أن الفائزين في المهرجان السينمائي الذي يستمر عشرة أيام يتم اختيارهم من قبل لجان تحكيم مستقلة مكونة من محترفين سينمائيين دوليين، فإن سياسيي المعارضة ألقوا باللوم أيضًا على المفوضة الفيدرالية الألمانية للثقافة، كلوديا روث، باعتبارها "المسؤولة عن التعليقات التي ألقيت على المسرح".
ودعا مندوب عن الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) إلى استقالة روث، بينما اقترح سياسي من الحزب الديمقراطي الحر (FDP) سحب التمويل الحكومي لمهرجان الفيلم.
وفي أعقاب الحفل، قال مكتب روث، في بيان يوم الإثنين، إن "تصفيقها كان موجهًا إلى الصحفي والمخرج اليهودي الإسرائيلي يوفال أبراهام، الذي تحدث لصالح الحل السياسي والتعايش السلمي في المنطقة"، ولم تكن لكلمة المخرج الفلسطيني باسل عدرا.
هستيريا في إسرائيل
وفي أعقاب المهرجان، نشرت هيئة البث الإسرائيلية تقريرًا بعنوان "خطاب المخرج الإسرائيلي المعادي للسامية"، والذي عمل على إبراز كلمات يوفال عن الفصل العنصري باعتبارها "معادية للسامية".
وبعد موجة من تهديدات القتل التي وصلت إلى يوفال، قامت القناة الإسرائيلية بحذف التقرير عن قناتها.
وبعد ما سبق، كتب الصحفي يوفال أبراهام على "إكس": "لقد جاء حشد إسرائيلي يميني إلى منزل عائلتي بالأمس للبحث عني، وهددوا أفراد العائلة المقربين الذين فروا إلى بلدة أخرى في منتصف الليل. ما زلت أتلقى تهديدات بالقتل واضطررت إلى إلغاء رحلتي إلى البلاد. حدث هذا بعد أن وصفت وسائل الإعلام الإسرائيلية والألمانية بشكل سخيف خطابي في برلينالي، حيث دعوت إلى المساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ووقف إطلاق النار وإنهاء الفصل العنصري، بأنه ’معاداة للسامية’".
وأضاف: "سوء الاستخدام المروع لهذه الكلمة من قبل الألمان، ليس فقط لإسكات منتقدي إسرائيل من الفلسطينيين، ولكن أيضًا لإسكات الإسرائيليين من أمثالي الذين يؤيدون وقف إطلاق النار، الذي ينهي القتل في غزة ويسمح بالإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، يفرغ كلمة معاداة السامية من معناها. وهذا يعني بالتالي تعريض اليهود في جميع أنحاء العالم للخطر".
وتابع في نصه الطويل: "بما أن جدتي ولدت في معسكر اعتقال في ليبيا، وقُتل معظم أفراد عائلة جدي على يد الألمان في المحرقة، أجد أنه من المثير للغضب بشكل خاص أن يتجرأ السياسيون الألمان في عام 2024 على استخدام هذا المصطلح كسلاح ضدي بطريقة تعرض حياتي وعائلتي للخطر. لكن قبل كل شيء، فإن هذا السلوك يعرض حياة المخرج الفلسطيني باسل عدرا للخطر، والذي يعيش تحت احتلال عسكري محاط بالمستوطنات العنيفة في مسافر يطا، وهو في وضع أخطر بكثير مني. أنا سعيد أن فيلمنا يثير نقاشًا دوليًا مهمًا حول هذه القضية، وآمل أن يشاهده الملايين من الأشخاص عند صدوره هذا العام". وختم يوفال، بالقول: "يمكنك أن تنتقد بشدة ما قلته أنا وباسل على المسرح دون شيطنتنا. إذا كان هذا ما تفعله بذنبك في المحرقة، فأنا لا أريد ذنبك".
يشار إلى أنه تم إنتاج فيلم "لا أرض أخرى"، بالتعاون بين الناشط والمحامي الفلسطيني باسل عدرا، والمصور والمزارع الفلسطيني حمدان بلال، والناشط والصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام والمصورة السينمائية راشيل سزور، ويركز الفيلم الوثائقي على مسافر يطا بالضفة الغربية، المهددة بالتهجير من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.