تبدو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في وضع لا يُحسد عليه. فكأنها حُشرت في زاوية وحدها مع انسحاب حلفائها من الخط التقليدي المعتدل. حيث تظلّ الخشية بالنسبة لديها أن يكون اندفاع ألمانيا منذ سنوات للعب دور متقدّم في الساحة الدولية -وهي تسعى لنيل مقعد دائم في الإصلاح الموعود للأمم المتحدة-، قد جعلها حاليًا متورّطة في مواجهة ملفات عديدة أهمها الاتحاد الأوروبي واللاجئون ومحاربة الإرهاب.
أوروبيًا، تتحمّل ألمانيا حاليًا الكلفة الثقيلة للاتحاد القارّي وتسعى لإنقاذه، وهو ما كان بيّنًا منذ أزمة الديون اليونانية حيث قادت ألمانيا خطة معالجة هذه الأزمة التي كادت، ولعلّها مازالت، تهدّد كيان الاتحاد الأوروبي. وتقود ألمانيا مهمّة تأمين حياة الاتحاد مع فرنسا، ولكنّ ميركل متخوّفة أن تظلّ مندفعة لوحدها لحمل التركة مع الصعود المنتظر لليمين في الانتخابات الفرنسية القادمة.
تتحمّل ألمانيا الكلفة الثقيلة للاتحاد الأوروبي، وهو ما كان بينًا منذ أزمة الديون اليونانية حيث قادت ألمانيا خطة معالجة هذه الأزمة
فإن كان يمينًا وسطيًا، ففيون أعلن صراحة اختلافه مع البرنامج السياسي لميركل، ويرفض التضامن معها في توزيع حصص اللاجئين، ويرفض العقوبات الأوروبية ضد روسيا، بل ويطالب بمنح الدول أكثر استقلالية داخل الاتحاد القارّي. وإن كان يمينًا متطرفًا، فلوبان وعدت صراحة بانسحاب بلادها من الاتحاد الأوروبي، وهو السيناريو الأسود بالنسبة لألمانيا.
اقرأ/ي أيضًا: أوروبا.. العنصرية ستسود
في هذا الجانب، زادت متاعب ميركل من الحمل الأوروبي بعد الانسحاب البريطاني المباغت، فقد خسر الاتحاد القاري واحدًا من أعتى الاقتصاديات العالمية. فتقود حاليًا ألمانيا ملف التفاوض حول فك الارتباط، والذي تسعى ميركل لأن يكون بأخف الأضرار.
كما يعني صعود ترامب في الولايات المتحدة المزيد من المتاعب لألمانيا، فالثور الهائج لا ينفكّ على التشجيع لفكّ ارتباط الدول الأوروبية من اتحادهم القارّي، وهو الذي يؤمن بالسياسات الانغلاقية والحمائية. كما يبين ملفّ اللاجئين والمهاجرين وإدارة ملف الإرهاب كإحدى الملفات الأكثر اختلافًا بين ترامب وميركل التي أعلنت مؤخرًا رفضها القاطع لإجراءاته الأخيرة المتعلقة بمنع مواطني 7 دول ذات أغلبية مسلمة من دخول الولايات المتحدة.
زادت متاعب ميركل من الحمل الأوروبي بعد الانسحاب البريطاني المباغت، فقد خسر الاتحاد القاري واحدًا من أعتى الاقتصاديات العالمية
ميركل القادمة من وسط اليمين الألماني، تبين كطوق النجاة لملايين اللاجئين وهي التي دافعت سابقًا بقوة عن استقبالهم، بل والأهم أنها تظهر كخط الدفاع الأخير للتقليل من آثار تهوّر إدارة ترامب. بيد أنها تظلّ في موقف صعب في كل الأحوال مع الخفوت المنتظر لحماسة الفرنسيين بالاتحاد القاري، إضافة لانسحاب البريطانيين، حيث من المنتظر أن تعمل لكبح جماح ترامب لوحدها.
ميركل التي أعلنت ترشحها لولاية جديدة تعلم كذلك مدى الثقل الذي بات يحمله ملف اللاجئين وملف الاتحاد الأوروبي على الخزانة والأمن الألمانيين، وكلفتهما في الشارع، خاصة مع تصاعد الحركات القومية المتطرفة. ولذلك قد لن تكون سخيّة في المستقبل أكثر مما مضى، خاصة وأنها اعترفت بحماستها المفرطة في استقبال اللاجئين.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟
هل تدفع ألمانيا بموقعها الحرج حاليًا ثمن اندفاعها لكي تكون فاعلة في كل الملفات في العالم بغية استعادة مكانتها الدولية؟ قطعًا ولكن ميركل تعلم منذ البداية أن خيار توسيع النفوذ الألماني لن يكون معبّد الطّريق، خاصة وأنها تعلم بأن الأصدقاء المنافسين وأولّهم فرنسا، يتحفظون على هذا الخيار، ويرفضون منح ألمانيا مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن، ويعملون على منع التمدّد خاصة في مناطق نفوذ هؤلاء الأصدقاء على غرار شمال أفريقيا أين أصبحت ألمانيا المنافس الأول لفرنسا.
المحدد الرئيسي لسياسات ميركل هو مصلحة بلادها واستعادة مكانتها الدولية ويتصادف حاليًا أن هذه السياسات مع المصالح العربية
بالنهاية تظهر صورة ميركل عند العرب وردية، ولو سُئلوا عن القيادات الدولية المفضّلة لديهم لقطعًا أجابوا باسمها، وهي التي شجّعت قبل بضعة أسابيع في مقطع فيديو الألمان خلال القمة العشرين للرابطة الاتحادية للاقتصاد السياسي لزيارة الدول العربية.
قطعًا إن المحدّد الرئيسي لسياسات ميركل هو مصلحة بلادها والسعي لاستعادة مكانتها الدولية ولكنها تتصادف حاليًا هذه السياسات مع المصالح العربية. وربّما الخبر الإيجابي بأنه في حالة هزيمة ميركل في الانتخابات القادمة، فلن يفوز اليمين المتطرف وفق التوقعات بل الحزب الاشتراكي، ولعلّه بذلك ضمن العرب ألا تنضم ألمانيا لمعسكر اليمين المتطرف، الكابوس الجديد للعرب.
اقرأ/ي أيضًا:
ألمانيا ونظريات اللجوء السوري
في مديح السيدة الجليدية