تعددت مواقف وعلاقات الروائي والصحافي السوري نبيل الملحم إلى حد التناقض. ذاكرة مليئة بالأحداث، صحافي مشاغب وروائي مشاكس. عرف كيف يدخل إلى عالم ياسر عرفات منذ طفولته، ودق أبواب عالم الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، وصادق الكثير من السياسيين ورجالات المخابرات والثورات، وكان شاهدًا على لحظات ضعف زعماء وقادة من حديد بكوا بين يديه، لا يرغب بنشر أسمائهم اليوم لأنها لحظات خاصة مع الإنسان داخلنا. هو ذاته يدخل عالم البكاء عندما يريد أن يستحضر الإنسان فالذكريات موجعة.
نبيل الملحم: ما أن تبدأ بكتابة مذكرات، حتى تتحول إلى رجل يستعد لموته
بذاكرة مليئة بالمقدمات دخل نبيل الملحم عالم الرواية في الـ57 من عمره، ولأن ذاكرته أصبحت منهكة من فيض الأحداث قرر أن يخفف الألم باللجوء إلى عالم الرواية هناك حيث يلعب الروائي دور "الله". لكن نبيل الملحم الواضح أحيانًا، والفاضح أحيانًا أخرى، كان رماديًا في موقفه من الثورة السورية كما يصفه البعض، لكنه عندما سيتكلم عن عبد الباسط الساروت سيجد فيه "الفارس" لثورة ابتلعها السماسرة.
اقرأ/ي أيضًا: أطياف رضوى عاشور.. خفة لغة الحكاية
نبيل الذي لا يزال عقله يحتمل جنونه، يحاول قلبه الذي علمه ألا يخطئ في الحب أن يخونه. التقيته في العاصمة الألمانية برلين وقد خرج توًا من العملية الثانية لقلبه المتعب، ويستعد ليفتح قلبه لمبضع الجراح للمرة الثالثة، فيما روحه بدأت بكتابة روايته السابعة "الله حين يحكي".
- نحن معًا منذ يومين، معظم تداعياتك اتصلت بشخصيات إشكالية، كارلوس، آغوب آغوبيان، مرتضى بوتو، عبد الله أوجلان، وحتى ياسر عرفات، ولكل من هؤلاء مساحة في ذاكرتك الشخصية.. لم لا تكتب مذكراتك؟
مبدئيًا الكتابة عن هؤلاء تعني الكتابة عن مراحل، مع كل اسم من هذه الأسماء حكاية مرحلة، وغالبًا هي مرحلة اليسار الجديد، وقد اتخذ خيار السلاح مطلع السبعينيات ونهايتها، ثم واجه نكسات خياله في توطيد أمميته، كما خسر حلمه وانتهى نهاية حزينة.. كارلوس سجينًا، مرتضى بوتو قتيلًا، عبد الله أوجلان سجينًا، وياسر عرفات مسمومًا.. مع كل اسم من هذه الأسماء ثمة ما يمكن التأسيس عليه للكتابة بما يسمح لك بأن تحيل الشخص إلى ذاكرة جديدة، وسأعطيك مثالًا، في لقاء مع ياسر عرفات، وكنا شابين صغيرين، عزت الراميني وأنا، قال جملة تستوقفني اليوم: "أنا لا أنام في غرفة لها باب واحد"، هذه الجملة بمفردها يمكن أن تؤسس لرؤية الكيفية التي أدار بها عرفات صراعاته، لم يكن يقبل بأحادية الخيار، في الوقت الذي كانت يده ممتدة إلى الروس (الشيوعيين)، كانت يده الثانية ممتدة إلى الأمريكيين، ولا تستهن بكلامه عن غصن الزيتون بيد، وبيده الأخرى بندقية، فهي بالضبط تلك الغرفة التي لا ينام فيها إذا كانت بباب واحد.
إن الكلام عن عرفات يعني الكلام بصلب التاريخ السياسي لحركة تحرر وطني شهدت انكسارات وإنجازات، وهذا عمل من حق المؤرخ أكثر مما هو من حق الروائي، وحين تسألني عن عبد الله أوجلان.. لقد كان حواري معه هو استطلاع شخصية، وكنت وما زلت محملًا على الحنين لأقول ما لم أقله في سبعة أيام معه.. لأقول الجانب الآخر من شخصية أوجلان.. شخصية الرجل الذي دخل في طور المقدّس بالنسبة لجمهوره، ومن ثم ما الذي يمكن أن يحدثه المقدّس في الإنسان النسبي، الذي يرغب، ويكره، وينهار إذا ما لزم الأمر؟ ما الذي ستحكيه عن خفقات قلب الرجل.. عن كاسيرا تلك المدينة التركية التي التقت بالولد الفلاّح فأحبته، لتتحول في لحظة ما إلى قاتلته؟ لنقل.. إلى عقدته التي لا يسعني الاعتقاد بأنها ستحلّ.. كيف يمكنك أن تكتب ما هو شخصي عن رجل مثل أوجلان دون أن تأخذ المسألة الكردية برمتها عبر هذا التماهي مابين القضية وحاملها.. هي مسؤولية أخلاقية ومعرفية بل وحتى تقنية لا أجرؤ على الدخول في مجازفتها.. هذا جانب من الأمر، الجانب المر، هو أنك ما أن تبدأ بكتابة مذكرات، حتى تتحول إلى رجل يستعد لموته.. مجرد أن تفكر بأنك ستكتب مذكراتك، هذا يعني أنك دخلت مونتاج فيلمك.. تجمع الشريط الخام، ثم تأخذ منه استجابات السيناريو، وتلقي باللقطات الثانوية جانبًا.. ما يعني نهاية هاجس الفيلم.. الشريط صوّر وانتهى وما عليك سوى أن تمنحه شكله النهائي، أنا لم أنته من تصوير فيلمي بعد، ما زلت أعيش، وأختبر، وما زلت في هاجس السؤال، أنا لم أقرّ بموتي حتى أفكّر بكتابة مذكراتي.. المذكرات يكتبها المحالون إلى المعاش.. الخارجون من الحياة.
- قرأت كل أعمالك الروائية، "سرير بقلاوة" قبل النشر وبعده، و"بانسيون مريم"، "حانوت قمر"، "موت رحيم"، "آخر أيام الرقص"، لم يظهر أيّ من مزاج هؤلاء في رواياتك!
ربما، بل فعلًا لم يظهر أيّ من ملامح هؤلاء في رواياتي، رواياتي اتصلت على الدوام بالمنسيين، بالأبطال الذين يولدون من الرواية، لن أكرّر بطلًا خلقه الله ما دمت قد منحت نفسي الحق في أن أكون الله.. غير أن بوسعك أن تسأل أيّ كاتب مما تكوّن وبالتالي مما يكون شخوصه وأبطاله وقضاياه.. هي من مجموع هؤلاء البشر.. من بطل تاريخي إلى متسوّل.. من لير إلى المهرج، ولهذا لا أظن أن الملك في الملك لير يعلو على المهرج، لا بحكمته، ولا بقوّته، وكذلك في ذاكرتك أنت بصفتك واحد من قراء شكسبير.. أنت كروائي، تأخذ مقعد الخالق في لحظة ما، تدعي أنك الله.. وفعلًا لحظة خلق الشخصية هي لحظة خلق بتلابيب كثيرة التكوين والاكتمال نسبيًا.
- هل من حقنا أن نسأل الروائي بـ "أأنت الله"؟
إذا افترضنا أن بطل الروائي كائن من لحم ودم، ومزاج ومآل، ومصير وسؤال، فأنا "الله"، وإذا لم يكن كذلك فلن أكون سوى روائي هزيل.
- في كل من رواياتك أبطال موزعون عليك، أو لنقل منك، ألا تلاحظ أنك تدخل شخصك في رواياتك؟
هذا لأنك تعرفني.. بالنسبة للقارئ لا أظن أنه يعتقد ذلك.. مع ذلك سأوافقك فأنا موجود في رواياتي، وموزع فيها وعلى أبطالها، ذلك أنني شخص متعدّد.. لست شخصية أحادية أو عقائدية، أنا رجل مبعثر، بي كل تناقضات هذا الكائن ساكن هذا الكوكب، من عاهرات رواياتي، وصولًا إلى حالميها، ولهذا ستجدني حاضرًا فيها، وما من أحد الكتاب الذين قرأتهم وجمعوني أو شكّلوا ذاكرتي إلاّ وكان فيه هذا العيب.. هذا عيبي الذي أحبه.
- ربما تكون "آخر أيّام الرقص"، هي العيب الأوضح، لم أقرأ لحظة من سليمان إلاّ وكنت أنت حاضرًا فيها.. هل عشت أنت شخصيًا تلك التجربة.. تجربة سليمان؟
عشتها ما بعد كتابة الرواية، في الرواية توقعتها، وما بعد الرواية عشتها.
نبيل الملحم: الفارق شاسع بين من يدفع دمه، وبين من يدفعك لتدفع دمك.. الأول بطل أو مغامر، والثاني سمسار
- سليمان رجل مخدوع، هل تعرّضت أنت شخصيًا للخديعة؟
ومن منّا ليس مخدوعًا؟ تاريخ رجل-امرأة، هو تاريخ الخديعة. أظن أن بونابرت، وقد بات مصطلحًا يرفق اسمه بالبونابرتية قد اكتوى بها.. ما من رجل عرفته كان أجمل من نجيب سرور، اكتوى بالخديعة حتى هرّت أسنانه، أنا أقول نجيب سرور، الرجل الساحر، الشاعر، المسرحي، المترجم، الثائر، الساخط، الهجّاء، وقع في فخّ الخديعة فكانت "كس أمياته" التي عمّمت صيغتها على بلد.. تجاوزت الشخصي إلى ما هو سؤال خلاّق، سؤال الجميع.. السؤال الفلسفي إن شئت.. لو بقيت خديعته الشخصية لاكتفى باستهلاك المناديل أو جفف دموعه بكمّ قميصه، لا، لقد ترك لنا سؤاله، حتى بات سؤاله يوجعنا.
اقرأ/ي أيضًا: رواية 1984.. التحفة الأدبية التي قتلت جورج أورويل
- هل تركت أنت مثل هذا السؤال؟
في "آخر أيام الرقص" لم أكن وفيًّا بما يكفي لصياغة هذا السؤال، كنت نزقًا، لو أعدت كتابتها الآن لتركت سؤالي لك.
- لماذا؟
لأنني اكتويت به.. بات أكثر ثقلًا مما كان عليه، كان سؤالًا افتراضيًا وصار حقيقة قاتلة.
- تحكي عن حدث؟
أحكي عن عالم يغتالك شخصيًا، عن عالم يقوى فيه القوّاد والقوّادة عليك وأنت الفارس. الوضيعون هم الأقوى، في كل شيء هم الأقوى، إن التجربة السورية، كانت تجربة شديدة الثنائيات، ففي الوقت الذي ترى فيه فرسانًا ستجد على الطرف الآخر سمسارًا، خصوصًا في بيئة منتجي الثقافة الذين يسمونهم اصطلاحًا مثقفين، هؤلاء على الغالب يخونون الثورات، ليس في التجربة السورية فحسب.. لقد أطلق عليهم المفكّر التونسي العفيف الأخضر لقب: "الكلاب التي تنبح ولا تعضّ"، هؤلاء كانوا بالمجمل عبئًا على الثورة في سوريا، عبئًا عمليًا وعبئًا أخلاقيًا، هؤلاء الذين أول من استدرج إلى خطاب التسلح، وهؤلاء أول من لم يحمل السلاح، ودلّني على مثقف واحد دعا إلى السلاح وحمل السلاح، والفارق شاسع بين من يدفع دمه، وبين من يدفعك لتدفع دمك.. الأول بطل، أو أحمق، أو مغامر، أو مقتول، والثاني سمسار.. وراجع التجربة السورية برمتها، وراجع تاريخ المثقفين فيها.. هل أنتج المثقفون شخصية واحدة ببسالة عبد الباسط الساروت؟ هذا الشاب جاء من ملاعب كرة القدم، وبات دمه ملعبه.. لن تجد من يماثله بين أباطرة الكلام والتوك شو والشاشات.. ستستغرب إن قلت لك إنني أغار من عبد الباسط الساروت؟
- نعم
الأمر كذلك، لم أر هذا الرجل إلاًّ وهو يركب الريح، هو عاصفة، عبد الباسط الساروت بالنسبة لي يساوي عاصفة، وبوسعي أن أعدّد لك عشرات الشخصيات التي أفرزتها الثورة والذين يشبهون الشورباء، هؤلاء من ضرورات تليين المعدة.. عبد الباسط يمثل حلمًا بالنسبة لي.. حلم النار، لم أره لحظة إلاّ لهيبًا.
- ولكن البعض قد يرى أن الساروت إسلامي التوجه وأنت ملحد؟!
للمرة الثانية أقول لك، أنا لست عقائديًا، الإلحاد ليس عقيدة، ولن أحوّله إلى عقيدة تصارع عقائد.. أنا رجل يبحث عن الفرد المفرد لا عن القطعان.. ثم أين المشكلة في أن يكون إسلاميًا؟ طيب، حين انهار اليسار وتشقق ما بين خيارات ناقصة، أين سيكون مكان الشباب؟ إذا الجامعة مغلقة، ما معنى أن ننال من المسجد المفتوح؟ الخيار السوري كما المصري، لم يكن خيارًا إسلاميًا، غير أن عاملين اثنين تكالبا على الحياة السورية، أولها "الدولة العميقة" التي لا تؤسس سوى لجهاز استخبارات وعسكرة المجتمع والناس، وثانيهما تهافت القوى العلمانية واليسارية التي لم تحمل ولو مصادفة هويتها، ولم تصف نفسها بوصفها حاملة مشروع باستثناءت قليلة ربما كانت تعبيراتها مطلع الثمانينيات التي انتهى فرسانها إلى السجون، وما إن خرجوا من السجون حتى سجنوا بالحصار الذي مارسه عليهم اليسار الرسمي المتحالف مع المؤسسة الدينية الرسمية.. في هكذا حال أين سيذهب الشباب؟ إلى النادي المحكوم باتحاد شبيبة الثورة؟ إلى نقابات العمال؟ إلى الأحزاب.. كان المسجد هو الوعاء، دون نسيان أن الإسلاميين هم الأكثر خبرة ومالًا ونفوذًا، بل وعقيدة من باقي التيارات، فذهب الشباب إلى المسجد، ولم يحدث هذا إلاّ في فترة متأخرة جدًا، في اللحظة التي أدخل فيها السلاح إلى الصراع.
نبيل الملحم: من يشبهني هم أولئك الشباب الذين تظاهروا بدمائهم في حيّ الميدان، بألوانهم ورقصاتهم وحناجرهم وحلمهم
- هذا سيقودني إلى موقفك من الثورة؟ حتى اللحظة أنت خارج الاصطفافات.. أنت متهم بأنك رمادي؟
وسأبقى خارج الاصطفافات.. المصطفون لا يشبهونني، من يشبهني هو من ألغته المعارضة.. من يشبهني هم أولئك الشباب الذين تظاهروا بدمائهم في حيّ الميدان، بألوانهم ورقصاتهم وحناجرهم وحلمهم.
اقرأ/ي أيضًا: دانتي.. امتزاج الحكمة بالبلاغة
هل تظن أن بوسع هؤلاء أن يصنعوا دولة؟
ومن قال لك إنني شغوف بمن يصنع دولة؟ أنا شغوف بمن يصنع حلمًا، الدولة يصنعها الطاغية، التكنوقراط، البيرقراط، الجنرالات، وأنا لا أريدها ولا أبحث عنها.. الدولة هي الشكل الذي انحط إليه الإنسان فقدّس انحطاطه، هؤلاء قد لا يصنعون دولة ولكنهم يهزون عرش الستاتيك.. يهزون المقابر.. يعلنون القطيعة مع الموتى، هؤلاء خرجوا من ركام خمسين سنة من الإلغاء.. لا تطالبهم بأن يكونوا تقنيي صناعة "دولة"، إن الذين تصدّوا وادعوا بأنهم ذاهبون لصناعة الدولة الجديدة باتوا من سكان دولة "الفندق"، وحتى اللحظة كل مافعلوه أنهم أطلقوا الرصاص على الدولة الوطنية، وانهارت.
- هم أم النظام؟
هم والنظام، بفارق أنهم النسخة المشوّهة عن النظام.. هؤلاء يحاكون النظام، النظام استدرجهم إلى خطاب السلاح فراحوا إليه.. النظام استدرجهم إلى خطاب التطييف فراحوا إليه، النظام لاعبهم في ملعبه وهذا ما حدث.
- ها أنت توجه غضبك إلى المعارضة أكثر مما توجهه إلى النظام؟
صحيح كلامك، ولكن لا لماذا؟ إن الثورة التي لا تراجع نفسها تسقط لا الماضي، بل تسقط المستقبل.. مشكلتك مع النظام أنه الماضي، غير أن مشكلتك مع المعارضة أنها مطروحة للمستقبل، وهذه هي المنطقة الخطرة.. خسرنا الماضي، هل نخسر المستقبل أيضًا؟
- لفتني كلامك أنك لست شغوفًا بالدولة.. ما فائدة الكلام عن المواطنة إذن؟
المواطنة هي اختزال سخيف للإنسان، هي محاولة لتهذيب تغوّل الدولة.. بالسخيف نحارب الأشد سخفًا، هذه هي الحكاية.. أنا لا أبحث عن دولة المواطن.. أنا أبحث عن مساحة للإنسان، والدولة لم تحقّق ذلك.. لا الدولة الرأسمالية بتوحشها أنجزت هذا، ولا الدولة الستالينية أنجزته.. كلاهما كان احتكارًا للإنسان تحت مسمى مواطن أو رعية، و"طز" بالاثنين معًا.
- ما زلت تحكي بلغة يسار السبعينيات؟
مازلت أحكي لغتي.. لست ناطقًا بلسان أحد.. ولا أرتضي أن أكون، إن أسوأ مهنتين في تاريخنا هما مهنة الناطق الرسمي، ومهنة الطبيب.
- ولم الطبيب؟
لأنه يطيل أعمارنا قسرًا.
- سأعود خطوة إلى الوراء.. أنت لم تُصنّف على الثورة.. لماذا نشرت ثلاثة أعمال روائية من زمن الثورة؟
ولن أسمح لنفسي بأن أكون مُصنّفًا، ولكنني كتبت "بانسيون مريم"، و"سرير بقلاوة"، و"موت رحيم"، وأخيرا "خمّارة جبرا"، وكلها من بيئة الطوفان السوري.. سألتني لماذا؟ لأن ما حدث في سوريا يكفي لتأصيل ذاكرة جديدة، ما حدث هو لحظة افتراق هائلة مع الماضي.. هو لحظة احتراق ما قبله، وحين يحترق منزلك ستسارع إلى حماية الثمين من أغراضه.. ما الثمين في سوريا اليوم سوى ذاكرة هذا الطوفان؟ وأين ستضع هذه الذاكرة.. في صندوق؟ لا.. ستضعها في منتج ما.. بالنسبة لي كان منتجي هو المنتج الروائي.
نبيل الملحم: ما الثمين في سوريا اليوم سوى ذاكرة هذا الطوفان؟
- لم يُفهم الأمر على هذا لنحو؟
وكيف فهم؟
اقرأ/ي أيضًا: الكوميديا الإلهيّة.. تشويقة للمبتدئين
- فُهم أنك خارج هذا الجدل.
فهم كذلك لأن القطعان كسولة، وقليلة الذكاء، تريدك جاهزًا ووفق وحدات قياسها لترتاح من عناء فهمك، ثم تطوّبك أو تطويك.
- ماذا في "خمّارة جبرا"؟ ما الذي أضافته على الروايات السابقة؟
ليست شغلتها أن تضيف.. هي لا تشبه أيّ من الروايات السابقة لتضيف.. هي أنا الكاتب الجديد.
- سأعدّل من صيغة السؤال.. عن ماذا تحكي "خمّارة جبرا"، طبعًا أنا قرأتها وأعرفها، غير أنني أطلب منك الإجابة ليعرف قارئ حوارنا هذا، عن ماذا تحكي؟
هي تحكي الخيارات المتأخرة.. ولهذا كان بطلها يتنقل على كرسي مدولب.. هي تحكي عن من ينهض متأخرًا، ومع كرسيه المدولب نقرأ جزءًا من تاريخ بلد حيث العسكر والقتل وهدر الدم، غير أنها ليست كذلك فحسب، هي مصائر بشر، أبطال لكل منهم سؤاله وهويته وهواجسه.. بالنتيجة هي حكاية.. أكتب رواية، إذن أنا أحكي حكاية.
- الرواية حكاية بالنسبة لك؟
بالتاكيد هي ليست نصًّا شعريًا وإن تجاوزت لغته لغة الشعر، وهي ليست تأريخًا لأنها تتجاوز قيود المؤرخ، وهي ليست بيانًا سياسيًا يحل مكان السياسي أو النقابي أو ذاك الحمار الحزبي.. هي حكاية محمولة على كل تلك الهواجس دون أن تتنازل للحظة عن السرد الروائي.. أنا أروي.. يعني أنا أحكي حكاية.
- متى ستصدر "خمّارة جبرا"؟
كان المفروض أن تصدر في الشهر الثالث من هذا العام 2016، وحصل ما أعاق نشرها.. ربما تنشر قبل نهاية العام.
- ها أنت تكتب رواية جديدة.. هل هذا هو عنوانها النهائي؟ "الله حين يحكي".
غالبًا هذا هو عنوانها النهائي.
- عن ماذا تحكي؟
عن الهزائم الصغرى التي تشكل السؤال الكبير.
- لم أفهم؟
ما من قضايا كبرى، هنالك أسئلة كبرى.. لأوضح لك ما أعنيه، أنا أذهب إلى إحداث فجوة صغيرة في الحائط تفتح فضاء واسعًا. هذا على الأقل ما أعتقده، لست من الذين يفتحون نوافذ واسعة لفضاءات ضيقة.
نبيل الملحم: كل أو معظم ما كتبه شكسبير كان في شرنقة الخديعة.. الخديعة تهزمنا
- عن أيّة هزائم تحكي؟
عن هزائم فرد.. عن العزلة، السأم.. عن الخديعة أيضًا.. رواية مقهورة لأبطال متنوعين، هي متاهة رجل بين سؤال الوجدان وسؤال اللحظة.. اللحظة بصفتها ملكية حصرية للقوّادين والقوّادات.
اقرأ/ي أيضًا: لميس سعيدي.. العالم ليس تمامًا ما يبدو عليه
- كثيرًا ما تكرّر كلمة قوّاد؟
هي الشتيمة الأكثر سخاء.. العاهرة بعرقها، وهؤلاء يعتاشون على عرق العاهرات.
- هل تمتد هذه الرواية من وقائع معاشة؟
في جزء منها نعم.. أقول في جزء منها، غير أنها ليست رواية توثيقية، هي رواية تداع بالنتيجة، غير أنك سألتني عن القوّادين والقوّادات.. نعم عرفتهما، وهما من مثقفي البلد.. القوادة تحت مظلة اليسار والحريات، وبيع الجنس وتبادل الزوجات ولعبة الاستخبارات الكبرى التي تعطي امرأة بلا رقبة مساحة في العمل العام، وكذلك زوجها المسخ وقد تحوّلا إلى مستنقع لتجميع الشباب.. القوادة هنا متصلة بلعبة الاستخبارات.
- هل عدت للكتابة عن الخديعة؟
وما الخلل في ذلك؟ إن كل أو معظم ما كتبه شكسبير كان في شرنقة الخديعة.. الخديعة تهزمنا.
- هل تعتبر نفسك مهزومًا؟
لا أشك في ذلك، غير أنني أستبدل هزيمتي بالكتابة، فأحوّلها إلى نصر.. أشواك القنفذ هي في المحصلة أشواك ولكنها تًحصّنه من أنياب الذئب.. الهزيمة هي أشواكي.
- أنت يائس؟
لا .. أنا متألم، موجوع، وحزين، ومقهور.
- من أين كل هذه السخرية لرجل حزين؟
هي أشواك أيضًا.. تمامًا كما أشواك القنفذ، بالسخرية تبعد عنك ابتذالات الأحزان، غير أنها لا تلغي أحزانك، كل ما في الأمر أنها توطّد غرورك.
- أنت مغرور؟
أكثر مما تظن.
- بناء على ماذا بنيت غرورك؟
بناء على زهدي بالأشياء والمكاسب واللهاث وراء كل القيم الواطئة.. أنا ابن قيم "الحب".. من حقي أن أكون مغرورًا.
- في المحصلة، ما الذي تريد أن تقوله لقرّائك في رواياتك؟
لا أريد أن أقول لهم شيئًا، هم ليسوا زبائن في سوبر ماركت لأقدّم لهم بضاعة.. أنا أكتب لأن الكتابة خلق، وأرغب في أن أكون خالقًا.
- سأسألك عن روايات الثورة.
*لا.. لا تسألني، "الثورة" ليست استثمارًا كما يحدث للكتابة الآن.. ليست مورد رزق.. الثورة ليست استبدال عالم بعالم.. الثورة عالم لا يقوم بدلالة نقيضه، هي عالم يقوم بفعل قيمه هو، ولهذا بقي دستيوفسكي رب الثورات، وكذلك شكسبير وكذلك جورج أمادو وكذلك ماركيز.. روايات الثورة وطدّتها قيم السوق لا قيم الرواية.. وطدّتها لعبة الاصطفافات والترويج وصناعة النجوم.
نبيل الملحم: روايات الثورة وطدّتها قيم السوق لا قيم الرواية.. وطدّتها لعبة الاصطفافات والترويج وصناعة النجوم
- تحكي عن ماركيز.. هل تأثرت أنت بماركيز؟
كذاب ابن كذاب من ينفي ذلك.. غير أنني حاولت التخلص من طغيانه.
اقرأ/ي أيضًا: مرتضى كزار.. الرواية ضرب من التأريخ
- تعتبره طاغية؟
نعم.. وكذلك محمود درويش.. كنت أكتب القصيدة، أكتبها لي، وكلما قرأت محمود درويش أخال أنه رفع سقفها بما لا أطاله فكففت عن الكتابة.. مع ماركيز عليك أن تنساه لتكون روائيًا محترمًا.. إذا لم تكن كذلك ستكون نسخة باهتة وغبية عنه.
- سأسالك سؤالًا.. هل دافعت عن مواقف أدونيس؟
حتمًا لا.. مشكلتي كانت مع من قدّس أدونيس بالأمس ودنسه اليوم، من الأساس أنا شخصيًا لم أكن يومًا من قرّاء أدونيس.. لقد وصفته بالمانيكان.. كل مافيه متناسق ومدروس واحترافي ولكن ليس فيه شغف الإنسان.. شغف العاشق، أو شغف الشاعر، أو شغف المقاتل.. أدونيس مدير مهم.. رجل يعرف كيف يدير رأيًا عامًا ويلعب مع الأضواء، هذه ليست ميزة حصرية بأدونيس، كثر من المثقفين السوريين لمعوا كنجوم، أنا أتساءل ببراءة: ما هو منجزهم، الذي ما قبله غير ما بعده، كي يحظوا بهذا التطويب؟
- هل تحدد أسماء؟
لا.. لن أدخل لعبة الأسماء، ولكن ثمة ما يمكن أن أحكيه، روائية تخرج من سوريا بجواز سفرها، ويختم جوازها، وما إن تصل بلدًا أوروبيًا حتى تؤلف سيرة شخصية كاذبة من ألفها إلى يائها، هي تكذب، ومن تكذب عليهم يعرفون أنها تكذب، وهي تعرف أنهم يعرفون أنها تكذب، ومع ذلك يحتفى بها كما لو كانت روزا لوكسمبورغ.. واضح أن ثمة اتجاهًا هو معادلة العجز عن الإنجاز بالإنجازات الكاذبة، والأوروبيون بمؤسساتهم لعبوا دورًا حقيرًا في تكريس هذا الأمر.. لا أعرف ما هي دوافع الأوروبيين لتوطيد الأكاذيب.
- من من الروائيين العرب يستهويك؟
صنع الله إبراهيم في رواية واحدة هي "اللجنة"، وفواز حدّاد في موزاييكه.
- إلى أين أنت ذاهب؟
إلى الغبار.. إلى الموت ككل الكائنات الكيميائية.
- وماذا ستأخذ معك؟
ولا شيء.. حتى أوجاعي ستذهب معي إلى الغبار.
- أنت متعب؟
أنا مقتول يعيد إحياء نفسه باللعب مع قاتليه.
- سأسألك سؤالًا أخيرًا يتطلب إجابة دقيقة.. إلى أين تمضي الرواية السورية اليوم.. وتحديدًا رواية ما بعد الثورة أو المتعلقة بالثورة؟
لا أستطيع أن أحكم سوى على ما قرأت.. ما قرأته يقول أنها رواية تنتهي قيمتها بانتهاء زمن الحفل.. الرواية لا تطرح قيم اللحظة.. الرواية تؤسس لمنظومة قيمية تتجاوز اللحظة لتتصل بالتاريخ، ولهذا ما زلنا نقرأ همنغواي.. ولهذا أيضاً نقرأ اللاتين.
نبيل الملحم: الرواية تؤسس لمنظومة قيمية تتجاوز اللحظة لتتصل بالتاريخ، ولهذا ما زلنا نقرأ همنغواي
- وما الذي يجذبك في رواية اللاتين؟
لا أستطيع أن أقرأ جورج أمادو دون أن أتلمس نصل السكين.. تجرحني.. رواية جارحة تركّب جناحين للخيال.. الخيال المجروح.
- هل لك رأي في الرواية العربية؟
قلّما أحببت رواية عربية معاصرة.. معظم الروائيين العرب المعاصرين يكتبون الرواية بوصفها وثيقة لا حكاية.. بوصفها أقل من القصيدة وأعلى من النثر.. بوصفها أكثر من بيان سياسي وأقل من فعل ثوري.. هنالك استبدال قيمة بقيمة، وكأن الروائي العربي موظف لإملاء شاغر في الحياة وهذه كارثة.. تشغر مهنة الترزي فيتحوّل إلى ترزي.. يخيب السياسي فيملأ الروائي مكانه.. هذه كارثة، والدليل أن معظم الأعمال الروائية التي روّج لها، روّج لها من قبل دكاكين السياسيين.
اقرأ/ي أيضًا: