في روايتها الجديدة "لا ماء يرويها" (منشورات ضفاف والاختلاف، 2017) تروي السورية نجاة عبد الصمد عن مكانٍ عطشان تعيش فيه قلوبٌ متلهفة إلى الماء والرحمة. تشكل صورة الماء في المخيال الشعبي، وما تحويه من استلهام للحياة، جوهرًا تحاك حوله حكايات شخصيات الرواية الذين لهم من العطش نصيبٌ كبير. جداول ماء وسواقٍ حُرم منها الجنوب السوري عاطفيًا، قبل حرمانه منها كمنفعة، فحيث تقسو الأرض أكثر من أصحابها، وتتشقق كقلوبهم لتكشف عن جفاف ضامر ويباس يصل حتى العمق؛ لا ماء يرويها ولا آبار تنفجر لتسد شقوقها وتملأ فراغ النفس، ذلك الماء المنتظر مع الأمل لعله يغير ما قد يتغير من السائد في منطقة السويداء.
في الجنوب السوري عطشٌ إلى كل شيء، إلى حكاياته المخنوقة وحكايات بناته المحزونات
في الجنوب السوري عطشٌ لكل شيء، لرواية حكاياته المخنوقة وحكايات بناته اللواتي متنَ فيه من البراءة خوفًا من العار، ومرويات نساءٍ جُهّلن وأُهملن. هناك حيث لا تكفي كلمة "عطشان" لتوصّف حال آبارٍ موعودة تقودها الخطط وتدبير الأموال في سبيل ضرب الأرض، لعل الماء ينفجر منها ويسير مع كل ما لم يقل في القرى البعيدة.
اقرأ/ي أيضًا: نجاة عبد الصمد: الجنوب.. سيرة العطش
من غرفة الكَرَش، في بيت أبو ممدوح في السويداء المدينة، تحيك حياة، ابنته البكر، قصصها وذكرياتها على قماش نافذ، تعبر منه الكلمات على شكل خط يسير إلى ثلاثينات القرن العشرين، عندما كانت تُزوج البنات ويرمين في حضنٍ أكثر جفافًا وثقلًا من حضنٍ في بيت لايتسع لهنّ. هي ندفٌ من حكايات جرائم الشرف ولكن بأقل أشكالها دموية وأكثرها بؤسًا.
هناك تتذكّر حياة قصة حبها البريء لابن الجيران ناصر، الذي لم تتزوجه لعناد أمه التي تخاصم أمها، ولأن العرق دسّاس، فكان من نصيبها أن يندس عرق الحب في قلبها ويلتف على رقبتها، لتُجر عروسًا خاضعة ليد رجلٍ يتجشأ أكثر مما يحب. تدير ذكرى ناصر الذي صار فدائيًا في بيروت بعد أن نفّذ وعدًا كان قد قطعه على أمه ألا تراه في حياتها إن لم تزوجه حياة. لتدفع تلك الحياة ذنب الابن والأم والوعود. وتنطلق بعدها إلى قرية مرج العكوب وقد زُفت إلى من لا تريده، على وقع أغنية العشيق التي تصدح في رأسها، لتنتهي بعد تلك الزفة الصامتة حكايات المدرسة وصور آلان ديلون في المجلة المدسوسة خفيةً بين الأغراض، وتبدأ هناك سلطة مليون ليرة سورية موضوعة في خزانة خليل زوجها في غرفة نومه، حيث لا يستغل فيها إلاّ تلك المليون وزوجة تطيع لذته على مضض خلال انشغاله بمشروع حفر الآبار الجوفية.
[[{"fid":"71056","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":309,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
خلف قضبان غرفةٍ يعلوها الطريق تطل منها حياة في حجرها الإجباري بعد تآمر زوجها وأولادها على طلاقها، بعد انتظار ومناجاة الأخ المنسي والحبيب الغائب سنوات طويلة، في مخبأ تحت الأرض لا تصلها إلاّ أصوات أطفال الحارة يلعبون، وضرب كعب قدم أختاه وعكاز أمها على الأرضية التي تكون لها سماء ضيقة.
لا ماء يروي تلك الأرض التي يقسو فيها قلب أب، وقلب عشيق، وتكون الأم فيها جاهلةً تلعن حظها الذي علّق في بطنها ست بنات وصبيًا مهاجرًا لا يفطن لوالديه، يغيب عن البيت الذي لا تغيب عنه لعنة البنت وتحريمها. هناك حيث تدان المرأة لمجرد كونها امرأة دون زيادات على التسمية تواجه هموم قسوة البيوت المصنوعة من البازلت، ذلك السواد القاسي على القلب والجسد.
اليباس الذي لم يُعقد على الذكريات والأغراض فقط، بل على تلك الأرواح الهائمة بلا معنى في فضاء المدينة، والتي تؤثر ببعضها البعض كلها متيبسة حتى الكسر، ككراكيب تالفة متعفنة تتجمع الأقاويل والأحاديث ما حدث منها وما لم يكن لحدوثه حقيقة، كل ما يطفو ويعوم من ثرثرات وأفكار عالقة في ذهن حياة، التي تتذكر لتعيش وتنتظر لتتألم على وقع اليومي الرتيب والمستقر في حياتها.
في "لا ماء يرويها"، تعيش بنات الجنوب السوري أسيرات الخوف والانتظار
في عمر الثامنة عشرة، يخبو نورها لتصبح بلا بهجة أمام مستقبلٍ لا يبدو أفضل من ماض يشبه فوضى غرفة الكرش المتروكة لرهاب الماضي. تعود إلى بيت أبيها مسجونة بين تنكات الزيت وعناقيد البامية وجديلة الثوم وكيس البصل، غسالة بمحرك معطّل لم يبع حتى بقروش. "غرفة الكرش التي يهجرها أهل البيت ويؤون فيها أراشيف أعمارهم الضائعة، وفيها تلتقي قوافل ذكريات يابسة، ومنها تسمع تمتمات ماضٍ لايموت" (ص 193). تبدو تلك الكراكيب وكأنها وجه المكان الحافظ لتفاصيله، وتفاصيل أصحابه أكثر منهم، غرفة الكرش التي تعرف أكثر من أهل البيت ماذا تركوا وبماذا احتفظوا ولماذا.
اقرأ/ي أيضًا: "خمارة جبرا": لماذا لا تسقط النجوم؟
يتركب السرد في رواية "لا ماء يرويها" بكلماتٍ عطشى، وبكل ما للعطش من وقعٍ كثيف في العروق، تهطل تفاصيل أهل السويداء ومرج العكوب مشتتة غاضبة، متزاحمة عاثرة. تمامًا كالذكريات التي تخذل حياة في ترددها الدائم على عقلها خلال إقامتها مع يباس وعفن في سجنها المعتم. تسير قصص الجنوب بين أهله دون سيول مائها المنتظرة، فلا تنفجر على السطح لا في الرواية ولا في الحقيقة، لا ماء يروي الأرض، ولا ماء يروي القصص ويغمرها.
ليصبح تعبير "لا ماء يرويها" مدمجًا شاملًا تقوم عليه أحداث الحياة هناك، تعتمده الروائية نجاة عبد الصمد لتوصيف تفاصيل المكان وشكل العيش فيه والذي يُسرق منه كل إحساس صغير وتُفرغ منه العاطفة فيصاب الجميع بالنشفان والعطش.
يأخذ فضاء المدينة هيبة شيخ من شيوخها، يضرب عصاه في الأرض يعطشها فيعطش معها كل شيء، وعليها ترتسم خطوط وملامح العيش الجاف، ليكون المكان كبطل حاضر يفرض رأيه على الجميع، يسيرهم في قسوة وتعنت والكثير من الأسرار التي لا يخدشها ولا يغيرها الزمن والتفاصيل. أحدها هو السر المجهول الذي أوقع حياة في الصغر وقت اللعب، وأجبرها على البقاء في مكانها باعتبار أيّ أرضٍ تسير عليها دمائك تعيش عليها. وكلعنة أو نبوءة، تعيش بنات تلك الأرض أسيرات الخوف والانتظار.
اقرأ/ي أيضًا: