أرجح الظن أنه خلال سنوات قليلة سيصبح معظمنا أميين تقنيًا. الابتكارات المتلاحقة لا تترك للمرء فرصة للتنفس. دائمًا ثمة ما لا نستطيع متابعته مع كل جديد في عالم التقنية. بات واحدنا يستخدم من هاتفه الذكي أقل من ربع ميزاته وقدراته. والأجيال الجديدة من الهواتف والحواسيب ستحمل في طيات برامجها الجديدة والمتجددة ما لا طاقة لنا على تعلمه بعد. والحال، فإن مهاراتنا تهرم بسرعة تفوق السرعة التي تهرم بها أجسادنا. وقريبًا قد نصبح، على نحو ما، خارج الخدمة، أي خدمة.
خلال سنوات قليلة سيصبح معظمنا أميين تقنيًا. الابتكارات المتلاحقة لا تترك للمرء فرصة للتنفس
منذ سنوات عديدة بتنا ننفق معظم أوقاتنا الحرة لمتابعة هذه التقنيات، وتعلم بعض خصائصها وأسرارها. ذلك أن هذه الخصائص لا تدخل في باب الترف أو التسلية. بل هي ضرورية جدًا لإبقائنا على قيد الاتصال بالعالم، والأهل والأصدقاء. وإجادة استخدامها مسألة حيوية في ظروف عملنا الحديثة. وحيث إن هذه التقنيات إلى ازدياد وتكاثر، فإننا غالبًا ما ننفق من مالنا ووقتنا، من أجل البقاء قيد الصلاحية. ما يجعل الإنسان المعاصر يشعر كما لو أنه في سباق ركض مضن وطويل ليتسنى له في نهاية المطاف أن يبقى في مكانه. التقدم أصبح اليوم بعيد المنال. وإذا نجحنا في البقاء على ما نحن عليه، طبقيًا واجتماعيًا وثقافيًا، بعد كل هذه الجهود المضنية، فإن تحجرنا وتجمدنا في أمكنتنا سيكونان جائزتنا التي لا تقدر بثمن، إنما هي الجائزة التي لا نملك وقتا للاحتفال بنيلها. علينا أن نغذ السير مجددًا لئلا يسبقنا العالم.
اقرأ/ي أيضًا: تجانس: إبادة
حمى التطور هذه ما لبثت أن أفرزت نوعًا من الاختصاصات الاجتماعية والثقافية والجيلية. فهذه قومية الذين ما زالوا يستطيعون التواصل وتبادل الأفكار عبر الفيسبوك، وتلك قومية الذين ما زالوا قادرين على إنجاز أعمالهم المستحقة والمتراكمة باستخدام برامج فوتوشوب. وهناك قوميات أخرى لا تحسن استخدام كل هذه التقنيات لكنها ما زالت قادرة على التواصل، مجرد التواصل عبر واتساب أو غيرها. وليس خافيًا أن كل هذه الوسائل التقنية باتت حيوية لأي إنسان على الكرة الأرضية يطمح لأن يبقى مستقلًا على نحو ما، ويحاول تأخير وقت تحوله إلى عالة على الآخرين ما أمكنه ذلك. ولا شك أن هذه الحمى الضارية جعلتنا نحتاج وقتا أطول للعناية بأجسامنا المتعبة، فمن دون تمتعنا بالصحة الوافرة والعيش مع أجسام صامتة، لن نستطيع ملاحقة كل المستجدات، وسرعان ما يفوتنا القطار على المحطة وحيدين ومن دون أن نجد من يسأل عنا.
هذا ما يجري للناس في دول ما زالت على قيد الاتصال بالعصر. لكن الناس في الدول التي تنهار مقوماتها يومًا بعد يوم، تبدو أمام مستقبل أكثر قتامة. ففي بلد كلبنان مثلًا، وهو في المثال مثله مثل سوريا والعراق وليبيا وتونس ودول كثيرة أخرى، ينقطع فيه التيار الكهربائي لأكثر من 20 ساعة يوميًا، ومهدد بانقطاع الإنترنت، وتتواضع دخول الأفراد فيه يوما بعد يوم إلى حد خطير. لا يستطيع مصمم غرافيكي أن يستمر في تدريب مهاراته على النحو الذي يستطيعه زميله الذي يعيش في دبي مثلًا. والوقت في هذه المسألة حاسم وقاطع كالسيف. والافتقاد إليه يجعل يوم اللبناني أطول بشهور من يوم المقيم في دبي أو قطر. بما يعني أن هذين الأخيرين يستطيعان تجاوزه بسرعة لا يقوى على مجاراتها، فيما يتخلف هو بسرعة تحجبه عن المشهد تمامًا.
لن نستطيع ملاحقة كل المستجدات، وسرعان ما يفوتنا القطار على المحطة وحيدين ومن دون أن نجد من يسأل عنا
اقرأ/ي أيضًا: حديث عابر عن الأربعين
ما تحاول هذه الفكرة قوله يتعلق بدور الحكومات الحيوي في إبقاء مواطنيها قيد المعاصرة، لأن التخلف عن هذا الركب يعني تبديد آخر الثروات التي تملكها تلك البلاد ألا وهي المهارات البشرية.
اقرأ/ي أيضًا: