كتبت الدكتورة هنيدة غانم على صفحتها: "غمرني الحنين وأنا أشاهد مع أمي تقريرًا جميلًا عن موسم الزيتون، فيه امرأة تشبه جدتي تتحدث عن الجول وطبخ الزيت.. أمي نظرت إلي وقالت لي بمسخرة جابتني بالحيط: لشو يا اختي بتشتاقي بلا صغرة! إنك تصحي بنص الليل عشان تعجني وتلحقي تروحي عالمخبز من (كلمة عاطلة) عشان تخبزي وبعدها تطيري قبل ما تحمي الشمس تنزلي عالزتون وتحاولي ترجعي عالبدري تطبخي وتوقدي للغسيل.. أبوها من ايام.. بتشتاق قال، خذلك الهبل لما الحكي بيبطل عليه جمرك".
على رغم كل ما يحدث في عالمنا إلا أنه هناك تاريخ جماعي ينمو، تاريخ من التفاصيل المتداخلة بين البشر يصعد إلى الواجهة
في زحف رأس المال فوق تاريخ الشعوب وإهراقها بالبضائع، وبين تضعضع التراث الخاص بالشعوب لتسير أفواجًا إلى مطاعم ماكدونالدز، وفي ما يبدو كأنه أكبر قضية سطو غير مسلح على خياراتنا الجماعية، وأحكام قبضة بعض الشركات أو ربما بعض الأشخاص على مصائر البشرية، وعلى نوع طعامها وشرابها وملبسها، بل وحتّى طريقة تفكيرها ونوعية المسلسلات التي تشاهدها.. ينمو أمر جديد يسحب البساط من تحت أولئك المتكئين على اختلاف الأعراق والأجناس والأديان في محاولة فرض سطوتهم على بقعتهم من جهنم، وهو أن العالم أصبح هو قرية مترامية الأطراف، وباتت مشكلتنا ليست في الحصول على المعلومات حالما حدوثها، بل تصفية تلك الكميات اللانهائية من المعلومات، تمييز الغث من السمين، أو تمييز الحقائق من أنصاف الحقائق.
اقرأ/ي أيضًا: الفقراء الفائضون عن حاجة العالم
على الرغم من كل المعيقات، ودون الحكم على ما يحدث بالإيجاب أو السلب، ينمو تاريخ جماعي، تاريخ من التفاصيل المتداخلة، خلل تقني في فيسبوك يخلخل خطوات مليار إنسان، سوء حسابات لشركة انتاج أشباه الموصلات في تايوان، تؤثر سلبا على مصانع السيارات في اليابان، وترفع سعر السيارات المستعملة في البرازيل.
هذا التاريخ المشترك الذي يربط مصير مهندس في بولندا وفي الهند وفي أمريكا، ويضعهم في جلسة يتحدثون فيها عن إطلاق تحديث برمجية مشتركة يعملون عليها، ومن ثم يتطرقون إلى آخر حلقة من مسلسلهم المفضّل، وإطلاقها بشكل تزامني في ساعة لن تلائمهم كلهم حتمًا.
لا نحتاج أن نخرج بعيدًا من ذواتنا، كي ننظر إلى البشرية ونكتشف تلك الدورية في مجمل التعاملات، وكيف تؤول دائمًا الأمور إلى تركيز القوة والمال في يد البعض يتحكمون بمصائر الباقين.
حدثت في خلال القرنين المنصرمين طفرة غريبة، لقد ازداد تسارع الاكتشافات البشرية، لتسبق إنجازاتنا الجماعية جيناتنا، وتحقق واقعًا من الصعب على البشرية استيعابه والتعامل معه بسلاسة، لو ضغطنا التاريخ البشري إلى أربعٍ وعشرين ساعة، لتبين لنا أننا في الثانية الأخيرة فقط تحولنا من حيوانات باحثة عن الطعام والمأوى، من قطعان متجانسة تحارب تحت قائدها كي تضمن قوت يومها ويوم أولادها؛ إلى سكان مدنٍ مكدّسة بكل اللغات والأعراق، إلى أفراد يحاولون أن يستوعبوا تلك الطفرة، وتفشل كل مخزوناتهم الجينية في تفسير ذلك.
العالم يتغير، ونحن نسير وراء مزمار الحضارة الاستهلاكية، مرغمين حينًا، ومختارين أحيانًا
في الجزء الأخير من الثانية الأخيرة، ينشأ جيل تشبّع بالعولمة وتراخت قبضة علاقته وحاجته إلى قطيع القبيلة أو الدولة كي تذود عنه، يترك كل شيء خلفه ويسافر كي يحقق صبواته بعيدًا عن كل مسقط رأس، يزداد التمازج فتحدث انتكاسات، ليكتشف مواطنو الدول الغنية، أن وجودهم في غيتوهاتهم البعيدة عن البلاد التي يستغلون مواردها ويغوون مستهلكيها، لم يعد يحميهم، وأن حربًا أهلية في سوريا تعني مليون لاجئ في ألمانيا.
اقرأ/ي أيضًا: سرطانات "لويس فيتون"
كل هذه العوامل خلقت مناخًا من مسح الذاكرة الجماعي، ندخل إليه طوعًا، وبما أن هذه التغييرات تفرض واقعًا متغيرًا، يخرج أغلب البشر وخاصة في الدول الغنية من مناطق الراحة، نرى ردّة مؤقتة في العديد من الأماكن نحو توجهات يمينية لا يمكنها الوقوف في وجه الطوفان الاستهلاكي.
العالم يتغير، ونحن نسير وراء مزمار الحضارة الاستهلاكية، مرغمين حينًا، ومختارين أحيانًا، فبالمجمل نحن في مدينة الغرب الفاضلة نحصل على حقنا بالحياة والطعام واليأس والرتابة ويغمرهم الحنين إلى أيام الفقر والفاقة، وما زال هذا اليأس حلم الكثيرين ممن بالكاد يحصلون قوتهم أو حقهم بالحياة. في ما يبدو انتفاء السعادة عن البشر بحجج مختلفة، ولكن يبدو أن المستقبل يحمل لنا أدوات جديدة تهدم الكثير من الأصنام القديمة، لكنها بالمقابل تخلق أصنامًا جديدة ونخبًا جديدة، تخلق لنا حقوقا جديدة بالتعاسة.
اقرأ/ي أيضًا: