19-ديسمبر-2023
كان فوز السيسي محسومًا سلفًا

فاز عبد الفتاح السيسي رسميًا بولاية رئاسية جديدة تنتهي عام 2030، بعد انتخابات شابتها شكوك بشأن انعدام النزاهة والشفافية، والمبالغة في الأرقام المعلنة من قِبل الهيئة الوطنية للانتخابات عن نسب المشاركة الفعلية للمواطنين، التي بلغت أكثر من 66%، ما يقارب 45 مليون مواطن من المقيدين بقاعدة بيانات الناخبين.

وشهدت مرحلة الاستعدادات للانتخابات الرئاسية، بعد فتح باب الترشح، العديد من التضييقات والانتهاكات الأمنية التي لاحقت بعض المرشحين المحتملين للرئاسة لمنعهم من الوصول لعتبة الترشح، وهو ما حدث مع البرلماني السابق أحمد الطنطاوي في مرحلة جمع التوكيلات، قبل أن تتم إحالته إلى المحاكمة الجنائية بتهمة تداول أوراق تخص الانتخابات دون إذن السلطات، واعتقال أكثر من 130 فردًا من حملته الانتخابية، لنصل في النهاية إلى انتخابات شكلية محسومة سلفاً وتفتقد إلى التنافسية الحقيقية.

أعلم جيدًا أنني أتحدث إلى حائط أصم، وأن الدكتاتوريات لا تنصت إلى شعوبها، ولكنها نصيحة في حب هذه البلاد قبل أن ندخل إلى كارثة جديدة

السيسي إذًا رئيسًا حتى 2030 كنتيجة طبيعية للتعديلات الدستورية التي أقرّها عام 2019، والتي مرّر خلالها مادة انتقالية منحته صلاحية الترشح لولاية رئاسية ثالثة لمدة 6 سنوات، وتمديد ولايته الثانية عامين إضافيين بعدما كان من المقرر أن تنتهي عام 2022، فدستور 2014 حدّد مدتين فقط لرئاسة الجمهورية، على أن تكون المدة الواحدة 4 سنوات، فماذا يمكن أن نقول للرئيس في ولايته الجديدة؟

لقمة العيش: معاناة المصريين اقتصاديًا

فلنبدأ من "لقمة العيش". يُعاني المصريون تبعات التضخم وانهيار العملة المحلية، ويركضون وراء الأسعار التي ترتفع يومًا بعد يوم، وينبِّشون عن السلع الأساسية التي تختفي من الأسواق، كالسكر والأرز والبصل واللحوم البيضاء، بينما يستمر النظام المصري في سياساته الاقتصادية التي أثبتت فشلها على مدار 10 سنوات، وجرفت البلاد إلى نفق من الديون والقروض التي أُنفقت على مشاريع وهمية بلا دراسة جدوى، ولا طائل منها، حتى ارتفع الدين الخارجي إلى أكثر من 165  مليار دولار في الربع الأول من العالم الحالي، مقارنةً بـ45 مليار دولار عام 2014، حسب بيانات البنك المركزي المصري.

تواجه الحكومة أزمة سيولة في النقد الأجنبي وسط مخاوف من التخلّف عن سداد الديون، فيما لم تعد الحلول المؤقتة مجدية، كما أن بعض دول الخليج الداعمة للنظام المصري، والتي أمدّته بمساعدات مالية بعشرات المليارات من الدولارات طوال السنين الماضية، لم يعد لها مصلحة في استمرار الدعم دون مقابل كما جاء على لسان السيسي في تشرين الأول/أكتوبر 2022، حيث قال إن الأشقاء والأصدقاء أصبح لديهم قناعة بأن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى، وأن الدعم والمساندة عبر سنوات شكّل ثقافة الاعتماد عليها لحل الأزمات والمشاكل.

لذلك، لجأت الحكومة إلى حلول اقتصادية حرجة في محاولة منها للسيطرة على الأزمة مؤقتًا، مثل قرارات البنك المركزي المصري بزيادة أسعار الفائدة 6 مرات خلال الفترة من آذار/مارس عام 2022 حتى آب/أغسطس عام 2023، أو طرح أسهم عشرات الشركات العامة وأصول الدولة في البورصة.

على النظام أن يحاول تدارك الأزمة واللجوء إلى الخبراء الاقتصاديين لا إلى "جنرالات" القوات المسلحة، لأن الشعب الجائع قد يأكل حكّامه. وعليه أيضًا أن يدرك أن المدن الجديدة لن يعمِّرها مواطنون غير قادرين على دفع تكلفتها بل والوصول إليها، وأن الطرق والجسور لن تفيد إذا لم يجد المواطن ما يدفعه للمواصلات، أو ما يدفعه لملء خزان سيارته.

الملف السياسي: حل جذري لا مسكنّات!

لا بد كذلك من إيجاد حل جذري للملف السياسي المأزوم منذ 10 سنوات، وعلى رأسه حلحلة ملف المعتقلين السياسيين ومعضلة الحبس الاحتياطي. إن معاناة المواطنين من ظلم وهمجية المنظومة الأمنية، وفساد منظومة العدالة، خلق لديهم حالة من الاحتقان الشديد غير محمود العواقب، ولذا فإنه من الصحي التوقف عن استخدام النيابة العامة ونيابة أمن الدولة وقوانين الإرهاب من أجل قمع المعارضين وأصحاب الرأي، كما أن بداية الإصلاح تبدأ من ترميم منظومة العدالة واستقلالها وعدم التدخل الأمني الفج في قراراتها.

الصحافة هي صوت الناس وليست بوقًا للنظام. وامتلاك الأجهزة الأمنية للمؤسسات الصحفية والإعلامية وشركات الإنتاج أفسد العمل الصحفي والإعلامي، وحوّله إلى بيانات حكومية، وجعل من الصحفيين موظفين للعلاقات العامة لتلميع صورة النظام. الصحافة المستقلة هي الضمانة لوجود حرية رأي وتعبير، والضمانة لمجتمع صحي متعدد الأطياف، لذلك فلتكفّ الأجهزة الأمنية يدها عن الصحفيين، وترفع الحجب عن المواقع المحجوبة، وتطلق سراح المحبوسين بلا اتهامات حقيقية.

وللمجتمع المدني دور هام أيضًا في تنمية المجتمعات، وقد يكون سندًا وعونًا للحكومات بالدرجة نفسها التي يكون بها رقيبًا عليها، فملاحقة النشطاء والحقوقيين والمنظمات الأهلية، والتضييق عليهم بقوانين مجحفة، لن ينقذ النظام من أزماته بل سيزيد من المشكلة. ولذلك، فليتوقف الأمن عن الترصد بالمجتمع المدني، ولتعمل الحكومة على توفير مناخ عام حر وآمن يُساهم بتعددية حزبية وحرية تكوين نقابات واتحادات طلابية.

تهديدات وجودية للأمن القومي المصري

تعرّضت السيادة الوطنية لضربات أضعفت من الموقف المصري وتأثيره إقليميًا، بل وحوّلت مصر من دولة فاعلة إلى دولة شبه تابعة. ربما حان الوقت لمحاولة إعادة مصر إلى ثقلها الإقليمي، وألا تكون قراراتها مرتهنة بإرادة دول أخرى سواء عربية أو غربية، فالموقف المصري من أزمات المنطقة ملتبس وضعيف بسبب تضارب المصالح مع الدول الفاعلة.

فبالنظر إلى الملف السوداني والتأثير المصري وتعامل الحكومة معه منذ بداية الأزمة، نجد أنه لا يتوافق أبدًا مع أهمية هذا الملف وخطورته، الأمر ذاته مع الملف الليبي وإن كان التأثير المصري أكثر حضورًا في ليبيا من السودان. ومع بداية حرب غزة، أبدى النظام المصري انبطاحًا وتخاذلًا دبلوماسيًا وسياسيًا غير مسبوق، وهي ملفات ثلاثة تمس الأمن القومي المصري بشكل مباشر.

أما عن ملف سد النهضة، فقد أثبتت جولات المفاوضات المكوكية فشلها، ووضعت الدبلوماسية المصرية في مأزق كبير، فماذا يمكن أن يفعله السيسي بعدما تجاهلت إثيوبيا كل المناشدات والمفاوضات والتهديدات، وتمادت في بناء السد الذي يحجز النيل ويجعل مصير مياه المصريين معلق في إصبع آبي أحمد؟

لا بديل عن الإصلاح

بعض الدول الغربية داعمة للنظام المصري، وبالأخص دول الجنوب الأوروبي التي تبيع الأسلحة والتكنولوجيا للنظام المصري كي يستخدمها في قمع المعارضة والتجسس على المعارضين، مقابل الاتفاق معهم على إدارة بعض الملفات، وعلى رأسها ملف الهجرة غير القانونية، والسيطرة على سواحل البحر المتوسط لمنع قوارب الهجرة من الانطلاق نحو أوروبا، وهي الورقة ذاتها التي لوَّح بها السيسي ضمنيًا أكثر من مرة مهددًا الاتحاد الأوروبي بأن مصر دولة كبيرة يتجاوز عدد سكانها 100 مليون، ولن تتحمل أوروبا أعداد المهاجرين أو اللاجئين في حالة حدوث اضطرابات داخلية.

تعرّضت السيادة الوطنية لضربات أضعفت من الموقف المصري وتأثيره إقليميًا، بل وحوّلت مصر من دولة فاعلة إلى دولة شبه تابعة

وعلى هذه الدول أن تُدرك أن دعم نظام بهذا الشكل لن يقيهم من الهجرة غير القانونية، وأنهم إن كانوا يريدون حقًا تحصين بلادهم، فالحل المستدام يكمن في الضغط من أجل الإصلاح الوضع الداخلي، وليس بمنح الضوء الأخضر لمزيد من القمع والسيطرة الأمنية وحكم الفرد الواحد.

فبعد إجهاض النظام أي محاولة للتحول الديمقراطي أو التغيير السلمي، أصبح الإصلاح من الداخل ضرورة واجبة كأضعف الإيمان، قبل أن يؤدي الضغط إلى انفجار لا يُحمد عقباه. أعلم جيدًا أنني أتحدث إلى حائط أصم، وأن الدكتاتوريات لا تنصت إلى شعوبها إطلاقًا، ولكنها نصيحة في حب هذه البلاد وهذه الأرض قبل أن ندخل إلى كارثة جديدة.