بعد طوفان طلاب الجامعات الأميركية، وما تبعه من احتجاجات في جامعات في دول مختلفة، صار لدى العالم الحرّ سجناء رأي بسبب الحرب على غزة، وصار الجميع يدركون أنهم لا يعيشون في الحرية التي ظنوا أنهم يعيشون فيها.
ومرة أخرى يتأكد المُؤكّد بأنّ القمع لا يحلّ مشكلة، بل يفاقمها، وأنه لا يحتاج إلى دولة بوليسية بل يمكنه أن يحدث في دول ديمقراطية، لكن النتيجة المرجوة منه مستحيلة، إذ لا يمكن للقمع أن يستمر، ولا أن يحدث بطريقة آمنة للقامعين، وفي آخر الأمر لا بد له من أن ينقلب على من صنعوه.
تحمل حركات الطلبة جاذبية خاصة لما فيها من شغف وحماسة وإبداع، وفي التاريخ العالمي شواهد كثيرة على حركات غيّرت عالمنا.
قاد الطوفان الجديد الطلبة المنتفضين إلى تحديد مواقع أعداء الشعوب، وبات واضحًا بالنسبة لهم أنهم رابضون في ثلاثة مواقع أساسية: القيادة السياسية، وإدارة الشركات والأعمال، والمؤسسات الأكاديمية والثقافية.
استنادًا إلى هذا يمكننا أن نرى أن الصراع الحالي يتخذ شكل صراع أجيال، بين جيل النظام العالمي الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزّزت مواقعه ومكتسباته في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وجيل ما بعد حرب الإبادة على غزة الذي لم يدرك أنه لا يعيش في عالم عادل وحسب، بل بات موقنًا أنه لن يكون عادلًا ما لم تكن حرية فلسطين على رأس أولوياته، لأنها فوق كونها حقًا طبيعيًا للشعب الفلسطيني فهي أيضًا اختبار لقابلية القوى المهيمنة على التخلي عن جشعها واحتكار للقوة واستمرارها في الاستعلاء.
حين يتحرك الطلبة كرد فعل للإبادة التي تعرض لها المدنيون الأبرياء في قطاع غزة فإنهم يدافعون عن إنسانيتهم التي يقوم ممثلو النظام القهري بتجاوزها
هذا الخيار القاسي وضع الجيل الشاب أمام مصاعب شتى، تدور حول القمع والمنع، بدءًا من الطرد من العمل والدراسة، وصولًا الى الاعتقال والمحاكمة.
اعتقل العديد من هؤلاء الشباب في المظاهرات، وطُرد الكثير منهم من وظائفهم بشكل متكرر، وحين انتقل النشاط السياسي إلى حمى الجامعات بدأ مؤيدو إسرائيل الساعين لإسكاتهم يتبعون أشنع الممارسات، تارةً من خلال التسلل بينهم ورفع لافتات تحمل عبارات تدعو لإبادة اليهود، وتارةً أخرى بشنّ هجمات أمام الشرطة التي تدعي السهو، وتارةً ثالثة بإلقاء فئران تجارب مأخوذة من المختبرات العلمية بهدف نقل الأمراض إليهم.. إلخ.
رغم ذلك كله تتحلى حركات الطلبة الحالية، كما هي دومًا، بطابع معدٍّ، إذ تنطلق في مكان ثم تنتقل إلى آخر، وهذا يعكس الديناميات الاجتماعية والثقافية التي تشكل جوانب مهمة من مجتمع الجامعة. ولطالما سجل التاريخ حركات مشابهة بدأت من مطالب محددة في الحرم الجامعي، مثل تحسين الخدمات الطلابية أو تغيير سياسات الجامعة، ومن ثم تطورت لتشمل قضايا اجتماعية وسياسية، أو حتى قضايا وطنية وعالمية.
ميزة حراك الطلبة الحالي أنه نابع من غضب عارم تجاه الإبادة التي مورست في قطاع غزة دون مراعاة لحسابات إنسانية أو أخلاقية، وأنه استمرار لسياق من رفض الظلم والاضطهاد الذي ظهر مع حركات سابقة مثل "احتلوا وول ستريت" و"حياة السود المهمة". وهذا الغضب ليس مجرد استياء وحسب، بل تعبير عن موقف رافض للنظام السياسي الفاسد الذي لا يمثّل طموحات البشر.
وحين يتحرك الطلبة كرد فعل للإبادة التي تعرض لها المدنيون الأبرياء في قطاع غزة فإنهم يدافعون عن إنسانيتهم التي يقوم ممثلو النظام القهري بتجاوزها، لذا لا بد من مواجهة كل ما يقومون به من قتل وتجويع، ومن تقوية دولة عنصرية ضد شعب مضطهد، فالإنسانية في خطر دون التأكيد على العدالة للجميع.
يبقى أن الولايات المتحدة لن تغير موقفها من إسرائيل في الوقت القريب، ولا الدول الكبرى التي تشاركها القوة والشعور بالتفوق.
صحيح أن حراك الجامعات، والمظاهرات الرافضة للمأساة المستمرة في غزة بشكل عام، تساهم في رفع الوعي بالجانب الحقوقي للقضية الفلسطينية، وفي توسيع دائرة تأييدها، لكن تأثيره المباشر على سياسات الدول سيظل محدودًا، لأن هذه السياسات تقوم على جملة من العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية مع إسرائيل، بالإضافة إلى التأثير الخبيث للوبيات الصهيونية، غير أنّ سرّ قوة هذا الحراك كامن في أنه يشكل الرأي العام ويحفّز النقاشات والجدل والمعرفة بفلسطين، وبالتالي فإنه يقوم بإحداث تغيير بطيء، ربما يحتاج إلى زمن طويل، لكنه سيكون راسخًا في المستقبل، ووقتها لن نتحدث عن انفراط التحالف بين الحكومات المهيمنة وإسرائيل، بل سنكون شهودًا عليه.
وما دام الأمر هكذا، فإنّ الطوفان الذي نشهده ليس كالطوفان الذي يجتاح المدن بلمح البصر، أو كالطوفان العسكري الذي يقلب الموازين السياسية في ليلة وضحاها، بل هو طوفان عميق ينحت نفسه شبرًا بعد شبر، ويغير الوجه والهوية والقناعات بشكل جذري وإلى الأبد.