إن كنّا قد نتقبل، على مضض، القول إن غاية المجاملة الأدبية في أحيان كثيرة، هي غاية نبيلة، المقصد من وراءها هو الكشف عن منتج أدبي صدر حديثًا لكاتب يضع أول خطواته في عالم الكتب، أو حتى منجز لكاتب له مسيرة طويلة شواهدها عناوين وملتقيات ودراسات نقدية، فتكون الكتابة عن العمل في مثل هذه الحالة تشجيع وتسويق له، وتقديم خدمة للقارئ والكاتب والناشر على حد سواء، لكن هل يبيح لنا هذا الاستثناء أن نجعل منه قاعدة أساسية، نرهن بها مستقبل الحركة الأدبية في أي بلد كان، فنخلط حينها بين وظيفة الناقد الأدبي ومهمته ككاتب مجاملات أدبية؟ وهل بالإمكان أن يقفز الكاتب والقارئ الانطباعي والمجامل إلى مرتبة الناقد الأدبي؟
حين يغيب النقد الأدبي تطفو المجاملة الأدبية
الواقع أن حركة النقد الأدبي في الوطن العربي في عصر الوصول السريع للكتاب، تكاد تنعدم بل قلّما نقرأ قراءات نقدية متخصصة لعمل ما بأدوات معرفية وخلفية ثقافية متينة، يعمد فيها الناقد إلى تفكيك النص وتحليليه مبرزًا جماليته وقيمته الفنية وجودته، وقوة أسلوب الكاتب وجرأته في الطرح بدون تكلف وبموضوعية، كاشفًا بذلك عن جوانب قد لا يلتفت إليها القارئ، فيتحوَّل بما كتبه إلى مساعد على فهم العمل ومنحه القيمة التي يستحق، مخضعًا في ذلك النص إلى نظريات وتحليلات ترفع نصوصًا قد لا تأخذ حقها من التسويق إلى مصاف الأعمال الأدبية الكبيرة، لكن ما وقع تقريبًا وبشكل فعلي أن النقد الأدبي أخذ اتجاهًا مغايرًا غير غايته الأساسية حلت فيه القراءات الانطباعية التي يكتبها عادة قراء أو صحفيون - وهو أمر جيد إن اكتفى بأن يكون قراءة انطباعية – محل القراءات جادّة.
الواقع أن حركة النقد الأدبي في الوطن العربي في عصر الوصول السريع للكتاب، تكاد تنعدم بل قلّما نقرأ قراءات نقدية متخصصة لعمل ما بأدوات معرفية وخلفية ثقافية متينة
أصبحت المجاملة طاغية، وتكاد تكون سِمة غالبية ما ينشر من مقالات، أو يُصنَّف في خانة النقد الأدبي، بل إن هناك كتَّابًا سيطروا على المشهد الأدبي والثقافي طيلة عقود أصبحوا ينحازون لقراءات مماثلة رافضين كل قراءة سواها، وهم بذلك يكشفون عن قصر معرفي وتخلٍّ عن مسؤولية أخلاقية، لكن الأمر الأسوأ على الإطلاق، يكون في ما إذا اعتبر الكاتب أنّ مثل هذه القراءات هي المرجعية النقدية الوحيدة لنصه، مدافعًا عمَّا ما كتبه القارئ الانطباعي المجامل ولا ينتبه -أو قد يتواطأ عامدًا- إلى أنّه يساهم بقدر لا يستهان به في تحويل الأدب من عملية إبداعية ذات أبعاد فنية متنوعة إلى عملية مقايضة محضة، نوع من النشاط التجاري تحت شعار: "قدم لي خدمة وأقدم لك أخرى، اكتب عن عملي لأكتب عن عملك، امدح عملي لأمدح عملك".
والجريمة التي قد تنتج عن صنيع مماثل والتي يتجاهلها هؤلاء هو موت الإبداع، وتعزيز للمشهد الواحد بوجوه واحدة على امتداد سنوات، كأنَّنا أمام تأسيس لدكتاتوريات أدبية وأخرى ثقافية، مع استمرار ممنهج لحالة العقم الابداعي، وفي الحالات النادرة التي ينفلت فيها اسم جديد من القطيع العام فسنكون مجبرين على مواجهة أنفسنا بكمّ من الأسئلة حول كتاب ناشئين ظهرت أسماؤهم- فإمَّا أن هؤلاء الكتاب قد انطلقوا من أماكن أخرى غير بيئتهم الأصيلة، أماكن لا يزال الإبداع فيها يصنع الفارق بين النصوص أو لأنهم قد وجدوا دعمًا معينًا في مكان ما، في حين يتسابق من تنكَّروا للإبداع وصموا آذانهم عن النقد الأدبي الموضوعي، والذي قد لا يحتفي حتمًا بنصوصهم إلّا في إطار موضوعي، لتبني هذه الظواهر الإبداعية الفتيّة، وكأن كلّ كاتب أصبح غير قادر على مواصلة الكتابة بشكل مرضي يتحول فجأة إلى وصيّ، كأنهم يتقاسمون مع كلّ اسم جديد يحتفى به، مجدًا أخفقوا في تحقيقه، ذلك أن ثمّة من يعنيه أكثر من شيء آخر ملاحقة الضوء أينما حلّ في حين يبقى الظلّ و إن كان ذو قيمة بلا تبني.
هل اختفى النقد؟
لم يعد إصدار الكتاب عملية صعبة مثلما كان عليه في السابق، فأغلب ما ينشر اليوم لا يخضع لأية مراجعة أو تقييم، وهو بذلك ينفلت من معايير الجودة. لم يعد الكاتب يحمل هاجس أن يُرفض نصّه طالما أنَّه سيدفع كلفة العملية النشرية. لا يعيب هذا دور النشر وحدها في ظلّ سياسات عربية تخضع عملية طباعة الكتب ونشرها لترسانة من القوانين المضنّية. لكن هذا لا يعني بأي حال قبولي النشر لأنّه تكريس للرداءة ما لم يكن النصّ قد مرَّ على لجنة قراءة ذات كفاءة، ولأن الظاهرة أصبحت منتشرة فيجب تقنينها ووضعها في إطار يحفظ للكاتب والناشر هيبته، ويبقي على مسافة احترام لذوق وذكاء القارئ.
وإن كانت النجاة من فخ القوانين التي تتربص بتحركات ونشاطات الناشر والمؤلف كثيرة، تشهر مرة بحجة ارتفاع سعر الورق والضريبة على الكتاب، ومرات أخرى الحفاظ على النظام العام، تمثل تحدّيًا ثقيلًا، فهل على الناقد أن يتبرأ هو الآخر من وظيفته الأولى، وينخرط في بيئة أضحى هاجسها الأوحد هو الربح ولو كان ذلك بالترويج للرداءة.
يمكن شرح هذه الظاهرة بما يقع على الناشر من خسائر مادية، نتج عنها تبادل للأدوار، فبدل أن يتحكم الناشر في جودة الكتب التي تنشر، يصبح من يدفع ويضمن استمرار دور النشر هو من يقرر، لهذا يجبر الناشر -في حالات كثيرة- على قبول تلك المحاصصة نازعًا بدلة الناشر مرتديًّا بدلة صاحب الوكالة التجارية، مثلما وصفه محمد ديب في أحد مقالاته. ولأنه أضحى صاحب تجارة، يكون ملزمًا بالتسويق والترويج للكتاب الذي وفر ثمن طباعته.
النقد ضرورة والمجاملة ترف
تعج المكاتب والمعارض العربية بعناوين جديدة، بعضها لكتاب مغمورين لا نكاد نعرف عنهم شيئًا، وأخرى لكتاب لهم مسيرة في الكتابة، أي أسماء لها قراء ومدافعين عن نصّوصها في كلّ مكان، ومساحات لرأي تنشر على جرائد عدة، ومؤسسات ترصد جوائز أدبية لروائيين وشعراء سيظل الأمر طبيعيًا ومحفزًا لو أن كل ما ينشر قيِّمًا ومثريًّا، غير أنه يومًا بعد يوم بعد يوم نشهد تراجعًا في مستوى النصوص المنشورة، واستنساخًا غير مبرر، وقد يكون ذلك نتاج لتراجع الذائقة الأدبية أو موت الإبداع، وتخلي النقاد عن مهمتهم الأساسية اتجاه ما ينشر من أعمال، من المؤكد أن الكتابة حق للجميع أي من حق من يرى في نفسه الموهبة والقدرة على الكتابة أن يكتب والتنافس محمود، لكن لا يمكن لتنافس أن يكون بدون تقييم أو غربلة وهذه هي الوظيفة التي لا يمكن لغير الناقد أن يقوم بها.
مراكمة المقالات ذات صيغ المجاملة والقراءات التي تقدم أحكام انطباعية وسطحية، تحرم النص من أنّ يُرى من جوانب عدّة، وتحرم الكاتب من تطوير أسلوبه، وتمنع عن القارئ الاستمتاع
لنترك كل هذا جانبًا، وليكن سؤالنا مباشرًا: هل يساهم النقاد في تراجع قيمة النصوص؟ وهل ثمَّة نقد حقيقي كما عرفته الحركة الأدبية في العالم العربي منذ أزمنة مضت؟ أو أنَّه تحول إلى كتابات مجاملة يقدمها قارئ لكاتبه أو ناقد لكاتب صديق؟
الواقع أننا نقرأ يوميًا مقالات صحفية وأخرى أدبية على مواقع ذات سمعة طيبة، تقدم أعمالًا أدبية جديدة يغفل صاحبها، إمّا تأثرًا وحماسة أو توغلًا في المدح، أن وظيفته هي أن يهب لنقد النص، بأن يتوقف عن دور المسوَّق التجاري، ويكتفي بما يمليه عليه ضميره المعرفي من أجل الإضاءة على جوهر المنجز الأدبي بدلًا من الترويج لشخص الكاتب.
مراكمة المقالات ذات صيغ المجاملة والقراءات التي تقدم أحكام انطباعية وسطحية، تحرم النص من أنّ يُرى من جوانب عدّة، وتحرم الكاتب من تطوير أسلوبه، وتمنع عن القارئ الاستمتاع وتوجهه، ذلك أن وظيفة الناقد تحتم عليه أن ينقل عبر تفكيك النص، مشاعره وقراءاته التحليلية، التي دفعته للكتابة عن ذلك العمل دون سواه فيكون معينًا للكاتب والأديب، غير أن ما يحدث غالبًا هو وصف نصوص سطحية وفقيرة إبداعيًا إلى نصوص عظيمة، يعرِّج الناقد في مقاله كلّ شيء إلّا النص أو يقدم شهادة تدفعك لتساؤل هل قرأنا ذات النص؟
البعض، وربما لكثرة إصداراته بشكل مسهب، ارتقى نصه لمرتبة النصوص المقدسة التي يُجرّم من ينتقدها ولو كان ذلك في إطار موضوعي، ذلك أن ما يعني الكاتب كم أصدر وكم نسخة بيعت، وإن كلّفه ذلك حملات دعائية بهلوانية نتفاجأ بها على مواقع التواصل، وعلى صفحات المجلات التي انزاحت وظيفتها إلى التهافت من أجل جذب قراء أكثر ولو بإثارة مواضيع ليست من الأدب والثقافة.
بين المجاملة والنقد شعرة معاوية، هما اتجاهان متعاكسان يتكاملان، لكن من غير الممكن أن يقتل التملق النقد وينهيه، المجاملة حميدة في مواضع قليلة جدًا أمَّا غياب النقد فقاتل لكل حركية ثقافية، التواطؤ يحدث حين نصمت أمام الرداءة وحين نبرِّر لها، أكثر من ذلك نتخذها مرجعًا، مراعاة لعلاقات وحسابات لا تعني الأدب، وليست من شأنه في شيء.
