لم يكن في وارد من تظاهرو في كبرى التظاهرات التي شهدتها "أرض الميعاد" سنة 1917، ليس في قدس الأقداس وحدها بل في يافا كذلك، في أعقاب وعد بلفور أن شعارهم برفض تقسيم سوريا الكبرى واقتطاع وطن للصهيونية باسم اليهود في جنوبها الغربي سيطوى الكثير منه، بل وأن يكون نسلهم مجرد فلسطينيين كما يشتهي الكثير تقديمهم. وفي مرحلة متفاقمة يصير من هؤلاء الفلسطينيين من احترف تقسيم المقسم وفرض الكفاية منه حتى.
الإنتاج الإنساني أدبيًا ليس وليد صدفة بقدر ما هو ترجمة ما لتجربة إنسانية في مواجهة الحياة ضمن أحد مستوياتها في تفوق متراكم للواقع واستعماله على الخيال
بحكم معادلة الاستعمار القسرية في أرض فلسطين ومسارات الموقف منه، بسيرورتها التراكمية وصيرورتها الديالكتيكية وفق مقاربة الراحل سلامة كيلة غير اللغوية، فإن شقًا عملاقًا نبت في أرض وعي فلسطين ووعي من فيها بذاته ولذاته. هنا توالدت المعاني وتأويلات هذه المعاني بخصوص أن تكون فلسطينيًا. لذلك قد يكون من المفيد بعد أكثر من قرن وقتي من التوليد في تكوين مكونات الهوية الفلسطينية رصد الكيف الذي حضرت عبره في أحد أبرز الأعمال الشعرية الفلسطينية، إن لم يكن العربية أيضًا، التي أتت بمصادفة ما من عند محمود درويش في قصيدته "أحمد الزعتر" والتي صارت مغناة "أحمد العربي" في وقت لاحق.
لا يأتي الرهان على ممكنات القصيدة المعنية، إلا من باب التعويل على مدى ضرورة فهم التحولات ونقاط الثبات المرجعية التي يمكن للأدب حملها وانعكاسية حركة الواقع عبره، ومدى قدرة العمل على التأصيل لذاته وبيئته، إذ إن الإنتاج الإنساني ليس وليد صدفة بقدر ما هو ترجمة ما لتجربة إنسانية في مواجهة الحياة ضمن أحد مستوياتها. ما يمكن له أن يعني أن الأدب يتناول تجربة الإنسان أولًا بما هي ماضيه، على اختلاف المسافة بين هذه التجربة وبين حركة الواقع. وبهذا التناول تأشير على معمار الحاضر ومنه انطلاقة إلى مخيال المستقبل بما يتجاوز الصورة والتصوير إلى ساحة التصورات.
في ذات السياق تبقى الحاجة ملحة لإدراك ماهية المنتج/المبدع لهذا الأدب. كما علاقة صاحب الإنتاج مع سلطة العنف الفيزيائي والرمزي، بهذا يعود منتج الأدب فاعلًا تاريخيًا بخصوص التجربة التي يذهب إلى تناولها، وتجربة من عاشوها في عالم الواقع بأسبقيته على عالم الخيال. هنا ترتفع أسهم درويش على جبهة الاستعمار، خاصة بعد ردته عن الراكاح/ الحزب الشيوعي الإسرائيلي، لكنها ليست كذلك ضمن جبهة الهيمنة فلسطينيًا. هذا من باب فهم الانعكاس في النص كعلاقة غير فجة بين الأدب والايدولوجيا والطبقة والجماعة والجمعي ومعها كلها مقولة الكاتب الوسيط، مما يوفر قوة دفع تجاه ميدان الهوية التي تظل بحاجة لكيان مادي يحتضنها ويرفدها، أي تجربة الإنسان في الواقع، للتشكل في الوعي الفردي والجمعي غير ميكانيكيًا.
يعود فهم الهوية خلال ما يقدم من آدب بشتى تجلياته وتمثيلاته بما لا يبتعد في مدى واقعيته عن محاولة الفهم إلى معايشة تجربة هذه الهوية، أو دراستها ضمن مناهج العلوم الإنسانية وتفكيك خطابها بهدف إعادة تركيب الصورة الأشمل لها. إذ يمكن للبنية الداخلية للأدب حمل وتحمل مجمل حركة الواقع وحركاته، بما هو الأدب استعمال للواقع. كما يحضر اختزال الأبعاد القومية والطبقية بما هي معطيات اجتماعية في بنية العمل الأدبي الداخلية. أما البعد الآخر في البنية الداخلية للأدب، فيتمثل في المساحة ما بين العام والخاص وتفاعلهما. أما الآخر أدبيًا وانعكاس موقف الآخر من حركة الواقع بنيويًا تكوينيًا فيمكن رسمه بعدًا ثالثًا يعطي بحضوره الفرصة للعمل الأدبي أن يذهب مذهب الوثيقة التاريخية الناطقة بلسان شعب/ طبقة/ جماعة إنسانية ذات محددات هوياتية مشتركة ضمن تجربتها المشتركة بدورها. هذا إن الهوية ليست بالصورة الثابتة، إنما هي ملخص شبكة من التفاعلات والوشائج القومية والطبقية والظرف المشترك، إلى جانب امتزاج الشعور الخاص بالعام، حيث كل منهما يعبر عن جزء أصيل في بنية الآخر، لا بصفته انفصالاً عنه.
باستطلاع "أحمد الزعتر" يحسب لدرويش مبكرًا في هذه القصيدة فهم الموت كضرورة حياتية لا أكثر ولا أقل. هذا بانتفاء إمكانية الموت وشرعيته في أن يكون من بين الحاجات التي تلتقي مع الفطرة السليمة على ذات المائدة لذاته، إنما لتقديم بعض الإجابات أو الحلول للحياة في ذاتها. كما تحضر القصيدة ذات الطابع التسجيلي الواضح ضمن سياق حركة واقع تترجم عنه الكثير كما يترجم هو بدوره العديد من مفاصلها. إذ حضرت " أحمد الزعتر" في سنة 1976 بعيد مذبحة تل الزعتر التي عنونتها ووسمتها، ورفقة يوم الأرض الخالد في الوعي الجمعي الفلسطيني وبشأن فلسطين لترصد بما هو أقرب لشريط سينما تسجيلية، بلغة رفيعة وأنيقة، يوم الأرض والتشكل الفلسطيني في الشتات و/أو منذ التشتيت القسري المستمر في الأرض المحتلة وخارجها، ناهيك عن الممكنات المستقبلية فيها. ليظهر أن درويش ترجم محاولة خلق بطل ملحمي خارق بما هو بطل إشكالي بالضرورة. بطل مستقى من حركة الواقع محققًا تقابلات الحياة والموت، بسقوطه إلى عالم البشر من عوالم الوعي، عبر أزمة هي من شأن المبدع الذي ابتكره ولم يبتكر إشكاليته بقدر ما رصدها ومهد لها عبر إسقاطه في التيه لحظة التقائه بالعالم عندما تتوفر القطيعة على عرض الصورة، بفهم جورج لوكاتش. ليقول درويش عن أحمد الزعتر ما يقال في بطل متدهور يبحث عن قيم أصيلة في فهم عالم متدهور وبوسائل بغنى عن مزيد من التدهور أيضًا.
إذ قدم درويش ما يبرر القول السابق بتسجيلية أحمد الزعتر الكاشفة للتكوين الفلسطيني منذ الشتات العظيم المتراكم والمستمر، عبر اتساق لغوي ومباشرة لا تخفى في رصد الشتات القسري وأثره وتشكلاته، عبر الـ5 حركات الشعرية التالية:
*هذا النشيدُ… لأحمدَ المنسيِّ بين فراشتين
مَضَتِ الغيومُ وشرَّدتني
...
*نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل
البلاد وكانت السنةُ انفصال البحر عن مدن
الرماد وكنتُ وحدي
ثم وحدي
…
*سائراً بين التفاصيل اتكأتُ على مياهٍ
فانكسرتُ
أكلّما نَهَدَتْ سفرجلةٌ نسيتُ حدود قلبي
والتجأتُ إلى حصارٍ كي أحدِّد قامتي
...
* عشرين عاماً كان يسألْ
عشرين عاماً كان يرحلْ
...
*وصاعداً نحو التئام الحلمِ
تنكمش المقاعدُ تحت أشجاري وظلّكِ
...
ليضيف درويش ضمن عمقه/عمق القصيدة التسجيلي ما ذهب تأويلًا نحو 5 حركات شعرية لانعكاس العام والخاص في النص:
*كان اغترابَ البحر بين رصاصتين
مُخيَّماً ينمو، ويُنجب زعتراً ومقاتلين
...
* أنا أحمد العربيُّ – قالَ
أنا الرصاصُ البرتقالُ الذكرياتُ
وجدتُ نفسي قرب نفسي
فابتعدتُ عن الندى والمشهد البحريّ
تل الزعتر الخيمةْ
وأنا البلاد وقد أتَتْ
وتقمَّصتني
وأنا الذهاب المستمر إلى البلاد
وجدتُ نفسي ملء نفسي
...
* يا أيها الولد المكرّس للندى
قاوِمْ !
يا أيها البلد – المسدَّس في دمي
قاوِمْ !
...
*فاذهب إلى قلبي تجد شعبي
شعوباً في انفجارك
...
*يا أحمد السريّ مثل النار والغابات
أشهرْ وجهك الشعبيَّ فينا
واقرأ وصيَّتكَ الأخيرةْ؟؟
...
كما ترجم وأصل درويش عبر 5 حركات شعرية أخرى انعكاس الطبقي/القومي وتفاعلهما في النص من بيئته:
*كان اكتشافَ الذات في العرباتِ
أو في المشهد البحريِّ
في ليل الزنازين الشقيقةِ
...
* تركتْ شوارعَها المدينةْ
وأتتْ إليه
لتقتلهْ
ومن الخليج إلى المحيط، من المحيط إلى الخليج
كانوا يُعدوُّن الجنازةَ
وانتخاب المقصلةْ
...
* وأعُدُّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحثُ عن حدود أصابعي
فأرى العواصمَ كلّها زَبَدَا
...
* لا ترسلوهُ إلى الوظيفةْ
لا ترسموا دمه وسام
...
*جلدي عباءةُ كلِّ فلاح سيأتي من حقول التبغ
كي يلغي العواصمْ
وتقول : لا
جسدي بيان القادمين من الصناعات الخفيفةِ
...
بينما لم يغب الآخر واستحضاره بما هو من ضرورات التعريفات الهوياتية المفترضة عبر 3 حركات شعرية:
*في كلِّ شيء كان أحمدُ يلتقي بنقيضهِ
...
*الآن أكمل فيك أُغنيتي
وأَذهبُ في حصاركْ
والآن أكمل فيك أسئلتي
وأولد من غبارك
...
* يا أحمد العربيُّ.
لم أغسل دمي من خبز أعدائي
ولكن كُلّما مرَّت خُطايَ على طريقٍ
فرَّتِ الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ
كلّما آخيتُ عاصمةً رمَتني بالحقيبةِ
فالتجأتُ إلى رصيف الحلم والأشعار
...
يختتم درويش قصيدته المغناة، الراصدة والكاشفة والانعكاسية بحركاتها التكوينية المفصلة أعلاه، بالتعويل على ذات الفلسطيني المتشكلة وتعبيراتها الهوياتية وموقعها في حركة الواقع معًا مخاطبًا أحمده:
أخي أحمد !
وأنتَ العبدُ والمعبود والمعبد
متى تشهدْ
متى تشهدْ
متى تشهدْ ؟
بينما لم تختتم مأساة أحمد العربي وشتاته بعد، بما هما نكبة، أو حصيلة نكبات متراكمة متوالدة ومستمرة باستمرار وقوف من اقترفوا تل الزعتر ومثيلاتها ليتناسلوا عقائديًا وبالدم، لا الديموغرافيا، إلى اليوم. حيث يقف الفلسطيني أمام استحقاق الانعتاق من أثر فاشيتهم والفاشيات المكملة والمولدة لها باستمرار.