تغيب اللغة في اللحظات الدامية ويحضر بدلًا منها الصراخ والعويل، أو يتراجع الكلام ليتقدّم عيّ الألسنة، وبعد انتهاء تناوب الصراخ والغموض، تلجأ الضحية إلى الصمت لعيش ألم تعجز عن التعبير عنه بغير تكرار مشهده وتأبيده، ومن ثم التفتّت معه.
ومع مأساتنا الفلسطينية التي نواجه فيها المحو والإلغاء منذ قرابة قرن، لا سيما بعد حرب الإبادة في غزة، يمكننا أن نجمع آلاف الشواهد من هذه الحالات التي صارت تستحق أن تسمّى "نكبة لغوية".
ليست نكبتنا اللغوية مجرد عجز عن الكلام، بل هي أيضًا عجز عن إيصال عمق معاناتنا وتجربتنا للآخرين. إنها كامنة في تلك اللحظات التي نواجه فيها الأهوال ونجد أنّ اللغة مذهولة مثلنا تمامًا، ولا قدرة لديها على عكس قوة الألم والشقاء، كما نجد أن الكلمات باتت صغيرةً وقاصرةً، ولم تتخل عن معانيها وحسب بل تحولت إلى مجرد أصوات غامضة.
في هذه النكبة تصاب اللغة بالشلل، ولا يعود دورها التواصلي مهمًا، فالألم هو الكلام، والعذاب هو البلاغة، وكل وصف يخرج من أفواهنا، نحن البعيدين عن المأساة، ليس سوى محاولة نسعى من خلالها لتخيل شكل الجحيم.
صمتُنا في كثير من الأحيان هو الشكل الأبلغ للتعبير عن ألمنا، لأن هناك آلامًا يُهينها الكلام. ولأن حبل الكلام قصير مهما ظنّناه طويلًا، إذ لا بدّ من أن نصل معه إلى أن نكرّر ما قلناه من قبل
مع ذلك، نحاول أن نصف. نعرف استحالة الأمر لكن المحاولة تأخذ شكل الواجب، فترانا نصف آلامًا نفسيةً لا نعرف مقدار تطرفها، ونصف جراحًا وتمزقات ليس في القاموس اليومي من المفردات ما يكفي لتحيط بها.
كأن كلامنا، إن وجدنا الكلام، يجعلنا نقول لمن حولنا إننا نعرف قسوة المشهد، ونعرف إلى أي حد وصلت الكارثة، ودليلنا على ذلك هو الكلمات التي عثرنا عليها في ذاكرتنا اللغوية، أو التي ابتكرها شهود المأساة فساعدونا على الوصول إلى أوصاف.
ندرك، في عمق هذه الأزمة، أن الوصف حاجة تخصّ حزن المتفرجين الذي يريدون نبش اللغة بحثًا عن إنصاف للمشهد بالكلمات، في حين أن من يعيشون الكارثة ونيرانها ليسوا معنيين بالوصف، بمقدار ما هم معنيون بالتعبير.
نحن المصابين بلعنة الوصف نعلن كل يوم لأنفسنا أننا قادرون على المضي والاستمرار، على الرغم من عدم قدرتنا على الكلام، فكيف لمن فقدوا كلامهم أن يتقدموا؟ ثم ما الذي يقال عندما يطغى الموت المجانيّ والتوحّش وتحويل الحياة إلى حمام دماء أكثر من أن نلوذ بالصمت؟
صمتُنا في كثير من الأحيان هو الشكل الأبلغ للتعبير عن ألمنا، لأن هناك آلامًا يُهينها الكلام. ولأن حبل الكلام قصير مهما ظنّناه طويلًا، إذ لا بدّ من أن نصل معه إلى أن نكرّر ما قلناه من قبل.
الكلام متكرر والألم متجدّد. يتقادم الكلام وتعتَق العبارات في حين يبرع الألم في تجديد نفسه، مع كل لحظة وفي كل ثانية.
لأجل ذلك ثمة مكانةً عُليا للصمت لا يجاريه فيها أحد من حيث قدرته على احتواء الألم والتجدّد معه. لا صمتَ على مثال صمتٍ آخر.
لا نريد العودة إلى كلام قلناه من قبل، بل الى الصمت الذي سبقه، والذي سبق كل الكلام، والذي بقي أمينًا ونزيهًا مع الألم، لا يُزوّر، ولا يتلاعب، ولا يغشّ، بل يعلو معه كلما علا، ويتمدّد في كل الاتجاهات على مثاله، وكأنهما في آخر الأمر شيءٌ واحد.
تتخذ النكبة اللغوية شكل الصمت لكنها تُسمع في آخر المطاف، وإن كان ذلك بوسائل أخرى غير الكلام، وعن طرقٍ أخرى غير الطرق المعبدة عادةً بين الشفاه والآذان.