السينما الأمريكية البديلة نشأت في نيويورك. هذه المدينة ماطرة وباردة وبوسعها أن تشبه جحيمًا في الصيف. وشوارعها تشبه آبارًا عميقة ألقي إليها مئات الألوف من البشر الذين يحاولون النجاة بلا أمل. بعد الدوام لسكورسيزي كان عينة مما يجدر بك أن تعيشه في هذه المدينة. فيلم يقول لك: توقف عن الأحلام، هذه الحياة القليلة والصاخبة في الوقت نفسه هي ما يجدر بك أن تعتاد عليه. وهذه المدينة البئر تضمن لك أن تعيش سنوات مديدة من دون أن تحسد أحدًا. ذلك أنهم في هذه البئر جميعًا يشبهونك، وغالبيتهم الساحقة أقلعت عن محاولة تسلق جدرانه الزجاجية والخروج نحو الشمس. أنت في نيويورك قادر على فعل كل ما يفعله غيرك. وأنت في نيويورك، تعيش على الحافة حقًا، لكنها حافة مكتظة إلى الحد الذي لو قدر لك أن تسقط عنها إلى هوة ما، سيسقط معك كل من تعرفهم ومن لا تعرفهم أيضًا.
نيويورك، لأنها مدينة لا تتيح للمرء أن يُحسد، أو يحسد أحدًا، تبدو مدينة نموذجية. ذلك أننا نستطيع فيها أن نتعلم كيف نحسب الزحمة نعمة، والنوم في المترو متعة، والسير في الشوارع بلا هدف أسلوب حياة
نيويورك، لأنها مدينة لا تتيح للمرء أن يُحسد، أو يحسد أحدًا، تبدو مدينة نموذجية. ذلك أننا نستطيع فيها أن نتعلم كيف نحسب الزحمة نعمة، والنوم في المترو متعة، والسير في الشوارع بلا هدف أسلوب حياة. باختصار هي مدينة للذين لا مكان آخر لهم يمكن أن يعودوا إليه. تابوت مبكر لأحياء لا يحصون عددًا. والعيش فيها مطمئن على النحو الذي يكون فيه المكوث في التابوت مطمئن. لا هوة بعد يمكن أن تسقط إليها، والحياة، كل الحياة، هي مجرد انتظار. ليست نيويورك مبهجة كباريس. إنها ضجرة، ومن ضجرها المقيم هذا تنشأ متعها. حين تخرج من حجرك إلى أحد شوارعها تشعر أنك لن تعود إليه أبدًا. ليس لأن الشارع ممتع ومبهج، بل لأن الوقت في هذه المدينة ليس ملك يمينك. قد تأخذك شوارعها ويجرك ناسها إلى حيث لا تدري ولا تستطيع أن تتخيل. مدينة ملأى بالمصادفات، لكنها مصادفات غريبة. لا شيء يحول دون أن تجد في هذه المدينة رجالًا برؤوس دببة، أو كلابًا تتحدث البرتغالية والصينية. أو ندلًا في المقاهي خرجوا للتو من أفلام فيسكونتي الأنيقة. كل شيء ممكن ومقدر. وهي لذلك تمنعك من الخروج عليها ومنها. كما لو أن مزاجها اللامبالي يصنع من حولها سورًا شائكًا يمنع أي كان من أن يغادرها.
لكن نيويورك أيضًا ثقيلة على الغرباء الذين يريدون الاستقرار فيها. سيحدث أن يتعرضوا لحوادث مشابهة لما تعرض له جون فويت في فيلم كاوبوي منتصف الليل. لتحسن أن تقيم فيها عليك أن تظل زائرًا إلى أن تفقد متعة وأمان كل ما اختبرته من قبل.
المقيمون فيها هم في أغلب الظن زوار مزمنون. جاؤوها للزيارة، ولم يعد في مكنتهم تبين طريق الخروج، وها هم يدورون على أعقابهم فيها، ويتحركون كما لو أن يدًا خفية تحرك خيوطهم من شرفات الأبراج الزجاجية. ولأنهم يدورون على أعقابهم، فإن عيونهم نادرًا ما تلمح ما يحدث فوقهم. في نيويورك تتعلم ألا تنظر إلى السماء والأبراج التي تسورها، عليك من وقت لآخر أن تصعد إلى أعلى البرج الإمبريالي الأشهر وتلقي نظرة على التابوت من فوق، ثم تعود إليه. لكنك لن تسمح لنفسك أن تنظر إلى فوق. هذا الفوق، يبدو في نيويورك سجانًا. هذه الأبراج لا تتغاوى لتغويك، إنها مجرد حراس يحرصون جيدًا على بقائك في متاهتها. وهذا في واقع الأمر يقع في صالحك. في هذه المدينة، تبدو الحياة كما لو أنها تحصل في دغل. كل يوم له ربه، وكل ليل له من يدبره، وليس ثمة سبب لتخطط حياتك وتقرر مستقبلك. عليك أن تبقى في هذه المتاهة، ليتسنى لك الادعاء أنك اختبرت الحياة حقًا وعرفت معناها.