آليتُ منذ فترة معقولة ألا أقول عن أحد إنه شاعر عبقري، أن أسخر من زعمه غالبًا. آليتُ أيضًا ألّا أدعي أنّ نصًّا ما يشكّل إعجازًا لغويًّا أو فكريًّا، فالعبقريّة هي مصدر شعريّ غابر تستند إلى تعريف غيبيّ للإبداع كفعاليّة بشريّة معرفيّة ولغوية، عاطفية وعقلية في الآن نفسه.
تنتسب كلمة عبقري إلى وادي عبقر، حيث يظنّ الشعراء أنّ هذا الوادي المعتم مليء بالجنّ، وأنّ هذا الجنّ هو الّذي يلهمهم القصائد إذ لم يكن من المتيسّر تعريف ذلك النّسق الشّعريّ المنتظم أو وضع اليد على مصادره. من هنا صار لكلّ شاعر شيطان خاص به يلهمه ويرعاه ويثبّت أقدامه ويحمي فحولته أيضًا، إذ قال أحدهم مفاخرًا شيطانه أنثى وشيطاني ذكر.
العبقرية أمر نسبي ضمنيًا، فبيكاسو فنان عبقري عند الجمهور، لكنه ليس كذلك عند عدد كبير من الفنانين. وقد صرّح مرة: "عندما أكون منفردًا لا أعتبر نفسي فنانًا"
بعد ذلك ارتبطت الكتابة بالليل "أنام ملء جفوني عن شواردها"، فنادرًا ما تحدث شاعر عن الكتابة عصرًا أو صبحًا أو حتى مطلع الفجر؟
في الإنجليزية تعود كلمة جينيس (Genius) إلى الكلمة الرومانية الغابرة جينياس- أي الروح الحارسة، وكلمة جينياس كما يلاحظ هي قريبة من كلمة الجن العربية في وادي عبقر، فالروح الحارسة هي الروح الملهمة والواهبة، كما يصفها هوراس في القرن الأول قبل الميلاد: "هي الرفيق الذي يوجه نجم مولدنا".
منذ القرن الثامن عشر نالت العبقرية معنى جديدًا ومعاصرًا وتم تعريفها بأنها القدرة الاستثنائية- لا المعجزة أو المجهولة أو الطفرة والفلتة- وهي قدرة طبيعية لا ترتبط بالميتافيزيقيا إطلاقًا، ويمكن تبين أسبابها ومصادرها ونقاط ضعفها أيضًا.
الأمر الذي ينبغي ملاحظته دومًا إن العبقرية أمر نسبي ضمنيًا، فبيكاسو فنان عبقري عند الجمهور، لكنه ليس كذلك عند عدد كبير من الفنانين. صرح بيكاسو مرة: "عندما أكون منفردًا لا أعتبر نفسي فنانًا".
ونزار قباني عبقري لدى الشباب غالبًا، لكنه محل جدل عند الشعراء والنقاد والقراء المختصين أيضًا.
في سنة 1711 نشر جوزيف أديسون مقالًا عن العبقرية قال فيه: "ما من مؤلف فاشل على وجه الأرض إلا ويظن معجبوه أنّه شديد العبقرية".
فيما بعد تمت الإشارة إلى أن العبقرية هدف يمكن التوصل له من خلال الاجتهاد والبحث والتفاني فما من أحد لديه القدرة على أن يكون عبقريًا دون الآخر، بل كتب الناقد ويليام هازليت في مقالة له: "ما من أحد عظيم يظن في نفسه إنه عبقري".
على اعتبار أن المبدع ينتج إبداعه وفق قدراته الخاصة وإن رأى العامة إن صنيعته أمر شاق فإنها ليست كذلك بالنسبة له، الأمر يشبه ما يصنعه رافعو الأثقال، فالتمرس والتمرين يجعلهم يرفعون الأثقال بطريقة تدعنا نعتبر أن ذلك أصعب من أن يحدث لنا.
يمكننا إذًا أن نحصر العبقرية في تعريفين "الخروج عن المألوف" و"عبور الزمن والمكان"، وهي من خلال التعريفين ليست ملكة خاصة لأحد ما، أو فلتة، أو طفرة، إنها البحث والحرية والتأمل، التفكير والحكمة وبذل الجهد.
فلم تقدم الدراسات التي أجريت على مدى عقود أي دليل دامغ على أن العبقرية أو الموهبة فطرة وجينة، ومع أن الموضوع ما زال على طاولة الجدل إلا أن ما تم التأكيد عليه حتى الآن هو أن الموهبة ترتبط بالشغف والتصميم والممارسة والتوجيه، ولا أدل على ذلك من كون الكثير من الشعراء والفنانين لم يكملوا الطريق، فلا أحد يحزر أن هتلر لو لم يطرد من جامعته لرأيناه فنانًا، وأن ماركس لو لم يتجه نحو صراع الطبقات لرأيناه شاعرًا فذًا، وأن أبا النواس لو لم يهاجر لسمعنا عنه كقارئ قرآن مجدّ.
لا يوجد شعراء عباقرة، بل يوجد شعراء مثابرون ومغامرون، إذ إن الأمر مستند إلى الجهد والقراءة والتصالح مع النفس، أيًا كان مقدار صفائها أو تلوثها
يمكننا إذا أن نقول إنه لا يوجد شعراء عباقرة؛ يوجد شعراء مثابرون ومغامرون، إذ إن الأمر مستند إلى الجهد والقراءة والتصالح مع النفس، أيًا كان مقدار صفائها أو تلوثها، ومن يعتقد أن المرء يولد شاعرًا كما يولد أسمر اللون - العبارة لماركيز- فإنه يعبد النسق العام والمقولات الجاهزة، يلغي نفسه ويلغي مسار التطور اللغوي والعلمي أيضًا.
لنختم بتلك التجربة التي أجراها جاري ماكفرسون وهو عالم موسيقي متخصص إذ وجه سؤالًا لمجموعة من الأطفال:
"إلى متى ستظل تعزف على آلتك؟
وكانت الخيارات كالتالي:
على مدار العام الحالي
طوال المدرسة الابتدائية
حتى المدرسة الثانوية
مدى الحياة".
كانت النتيجة أن الذين أجابوا "مدى الحياة" كانوا أفضل، وهذا ليس لأنهم تمرنوا أكثر فقد يتمرن الآخرون إرضاءً لرغبة آبائهم، إنما لأن أدمغتهم مصممة وموجهة على أن الإبداع جزء من الحياة وليس واجبًا مدرسيًا فقط.