هذا المقتطف من كتاب المفكر العربي عزمي بشارة: "في المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي". الصادر عن "مركز دراسات الوحدة العربية" (بيروت، 2007)، وعن "المؤسسة الفلسطينية للديمقراطية - مواطن" (رام الله، 2008). وهو مأخوذ من الصفحات 201 – 204. وهذا العنوان ليس موجودًا في الكتاب، بل يبدو المقتطف كإجابة عليه، ويبدو نشره ضروريًا اليوم بسبب إلحاح هذا السؤال في واقع المجتمعات العربية المعاصرة، بعد التفكك الذي ألحقه بها الاستبداد، في رده المجنون على الثورات، ومحاولته القضاء عليها. هذا سؤال عن الأمل العربي، في الوقت الذي يريد له حاملو شعاراته أن ينتهي. سؤال عن الوحدة العربية، في الوقت الذي يقتلها رافعو ألويتها. سؤال عما تحول من رغبة إلى حاجة، ومن أمل إلى ضرورة.
"من أين يأتي انطباع الرومانسية هذا عن القومية؟ والذي يلوكه الـ"نيوليبراليون" من حلفاء المرحلة الأميركية ويطيحون به بعدمية باتجاه القوميين وغيرهم من نقاد المرحلة؟ ونقول العدميين ونقصد نمطًا منتشرًا في الإعلام العربي بين بعض كتبة الأعمدة، ممن يعجبون بالتطرف القومي والرومانسية القومية إذا تجلت على نمط خطب بوش في كاتدرائية في واشنطن، أو إذا كررها اليسار الإسرائيلي في صراعه ضد حق العودة الفلسطيني، ولصالح قانون العودة الإسرائيلي ويهودية الدولة، بنبرة قومية لافتة يحترمها المعادون للقومية العربية ، ولا يعتبرونها رومانسية.
نشأت في الأيدولوجيات القومية مظاهر حنين للجماعة المفقودة، وللأرض والطبيعة وللريف
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: المدينة الغائبة
اقرأ/ي أيضًا: كأننا..
وفي الواقع لا تخلو الحداثة الأميركية والإسرائيلية من الطقوس والخطب الرسمية، الشعاراتية الطابع، ومن الرومانسيات والأساطير القومية والدينية، بل تعج بها. هم لا يدرون شيئًا عن جذور هذا الانطباع عن القومية، ولكننا يجب أن ندري إذا أردنا أن نقيم تاريخ الفكر القومي العربي وغير العربي تقييمًا نقديًا. فالقومية كما أسلفنا - كتجاوز الانتماء إلى أيدولوجيا رئيسية، وكتيار مركزي في المجتمع - نشأت في الدول التي تأخرت في التطور الرأسمالي (المقصود هنا بعض الدول الأوروبية)، وغالبًا ما طرأ عليها تحديث قسري من أعلى. وحلت فيها القومية كرد فعلي رومانسي على انحلال الجماعة العضوية، ومحاولة إعادة تأليفها كـ"جماعة متخيلة" ضد الفردية و"الانحلال" التي ميزت المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وذلك في القومية القائمة على الثقافة أو الانتماء الإثني.
ومع هذه الرومانسية نشأت في الأيدولوجيات القومية مظاهر حنين للجماعة المفقودة، وللأرض والطبيعة وللريف، وإضفاء هالة من القدسية على الأقدمين وكتابة التاريخ كأنه تاريخ ملاحم ومواقع بطولات، تاريخي قومي، بطولات الأقدمين، وإنتاج المزاج لنزعات تقدمية للانتماء وللوطن وللجماعة، ثم للانضباط والطاعة والتنشئة على قيم قومية، والرغبة في تنظيم التحول الاجتماعي بشكل شبه عسكري للتعويض عن التأخر في التطور الرأس مالي (مقارنة بالآخرين)، وللتعويض عن ضعف قيم الحداثة في المجتمع بالتخطيط الصارم والهندسة الاجتماعية. وقد ولدت هذه الأفكار ما ولدت من عمليات تحديث في إيطاليا وألمانيا وبولندا وروسيا، ولكنها أنجبت أيضا أنظمة شمولية من أسوأ نوع.
لم تسنح الفرص للقومية العربية للوصول إلى هذه المراحل الشمولية لا نظريًا ولا تطبيقيًا، ولكن لوحظ عند مفكريها الرومانسيين مثل زكي الأرسوزي، وحتى المحدثين والحداثيين بينهم من أمثال قسطنطين زريق، وساطع الحصري، تأثر شديد بالرومانسية القومية الألمانية والإيطالية. ولكن كما أسلفنا تضمنت الرومانسية الألمانية جوانب تنويرية نهضوية متأثرة بالثورة الفرنسية، كما في حالة يوهان غوتلب فشته مثلًا. وهي بالتأكيد ليست مسؤولة تاريخيًا عن استخدام النازية الغوغائي لخطابها في استنهاض الأمة أو الشباب.
يجعل المنظرون الغربيون من "فشته" القرن التاسع عشر، أحد أبناء النازية في القرن العشرين!
ويعير المنظرون الغربيون الحصري بتأثره هذا، جاعلين من "فشته" القرن التاسع عشر، أحد أبناء النازية في القرن العشرين. والحقيقة أنه عند الحصري وغيره من منظري القومية العربية، اختلط هذا التأثر مع الإعجاب بسرعة توحيد الدولة والتنظيم والتحديث والضبط، ونشر العلم والتصنيع في مجتمعات كانت حتى مرحلة قريبة مجزأة إلى إمارات مختلفة، كما اختلط مع العداء للمستعمر الإنجليزي والفرنسي فيما بعد. وعلى كل حال، كان مفكر مثل الحصري حريصًا على أخذ مسافة من المفكرين الألمان في القرن التاسع عشر، حيثما لزم.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقضة
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. الحفر في الثورة المصرية (1- 2)
ولكن برأينا يجب عدم الخلط بين هذه الميول التي بقيت أيديولوجية، وبين تشديد القوميين الأوائل على التربية والنهضة بالشباب، والتثقيف القيمي والأخلاقي ومنح الشباب حلمًا وقيمًا ومعنى. فهده ليست بالضرورة رومانسيات، وحتى لو تضمنت بعض الرومانسية إلا أنها عبرت عن حاجة ماسة. ولذلك تولت عملية إعداد برامج التربية والتعليم نخب تلك المرحلة، مثل ساطع الحصري بنفسه وطه حسين (في حالة الوطنية المصرية وليس القومية العربية) بنفسه. وأدى غياب التزام النخب المتنورة بعملية التربية، ليس فقط إلى انهيار عملية التعليم والتربية، بل ساهم أيضا في مفاقمة الأزمة الأخلاقية التي تعيشها الثقافة السياسية العربية في المرحلة الراهنة.
يذكر عزيز العظمة في كتابه الممتاز عن المفكر العربي قسطنطين زريق، سخرية رئيف خوري الماركسي من القيم التربوية المتضمنة في كتاب الوعي القومي لزريق، إذا يشبهها بالوعظ الكنسي الإنشائي. ورئيف خوري ماركسي لامع، وكاتب مُجيد. وقد ترك بعض الماركسيين العرب تحليلات جيدة جدا لحال المجتمعات العربية، وحتى القضية الطائفية. لكن سخرية الماركسيين، من القضية الأخلاقية والتربوية والقومية، واعتمادهم نسبية الأخلاق الكارثية والتساؤل الدائم حول أي مصلحة تخدم القيمة الأخلاقية، واتهام القومية بالرومانسية، هو مثال على تهافت هذا النوع من النقد.
لقد أدى هذا النهج الفكري والسياسي إلى ما أدى إليه في دول المنظمة الاشتراكية من هدم الإنسان والقيم المجتمعية، فيما يتجاوز حتى آثار انهيار الدكتاتورية الشمولية، كما أدى إلى إرساء الأساس إلى تحول بعض اليساريين العرب من اتهام القومية بالرومانسية من اليسار، إلى اتهامها فيما بعد بالرومانسية من مواقع اليمين النيوليبرالي. وقد بلغ البعض حد توجيه النقد إلى القومية العربية من داخل المعسكر الأميركي الإسرائيلي. وهو المعسكر الذي يعج بالقوميين الرومانسيين من المحافظين الجدد وحتى اليمين واليسار الصهيوني.
وعمومًا يعتبر أنصار تكريس الوضع القائم على أنواعهم النظر إلى العام من خرم إبرة مصالحهم الضيقة، الطائفية أو العشائرية أو غيرها، واقعية. وكل ما عدا ذلك يعتبر رومانسية، وقد يثبت أن هذه العدمية هي بذاتها رومانسية مقلوبة، كما هي حال العدمية دائمًا".
اقرأ/ي أيضًا: