حازت نظريات نقد الشعر الجاهلي في القرن الماضي على اهتمام عدد كبير من عمالقة الفكر العربي والاستشراقي، وراحت النظريات تتأرجح بين التشكيك بوجودها أصلًا وإثبات وجودها واعتبارها كانت تمثل جزءًا حيويًا من الفكر العربي قبل ظهور الإسلام.
تبلور اللغة العربية في تراكيبها وقواعدها حديث نسبيًا مقارنة باللغات القديمة
ولعل الدكتور طه حسين في عملية تحوله من إعلاء شأن هذه المعلقات في حياة العرب، وحتى نظريته في التشكيك بها، يمثل جزءًا من هذه التحولات التي شهدتها دراسة الشعر الجاهلي، إذ نجده قبل طرح كتابه التشكيكي "في الشعر الجاهلي"، يقول في كتاب "قادة الفكر"، الذي بحث فيه في شعراء اليونان يقول: "هل كانت توجد الحضارة اليونانية التي أنشأت "سقراط" و"أرسطاليس" والتي أنشأت "ايسكولوس" و"سوفوكليس" والتي أنشأت "فيدياس" و"بيريكليس" لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر "هوميروس" وخلفائه؟ وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال لو لم توجد البداوة العربية التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم".
اقرأ/ي أيضًا: علم النفس.. تأسيس إسلامي
تبلور اللغة العربية في تراكيبها وقواعدها حديث نسبيًا مقارنة باللغات القديمة، ويعود الفضل في إغنائها إلى عاملين أساسين، أولًا الشعر القديم وثانيًا للقرآن الكريم، وعملية تتبع تطور تراكيبها تقودنا إلى مفاتيح مهمة في فهم آلية تطور اللغات باعتبار أن اللغة هي بنت مجتمعها، ولعل قصة الشاعر القرشي الشهير علي بن الجهم مع الخليفة المتوكل، تقدم رؤية مختصرة لمفهوميْ البيئة واللغة، فهو في لقائه الأول مع الخليفة قادمًا من الصحراء حاز على غضب الحضور وطالبوا بضربه عندما قال للخليفة: "أنت كالكلب في حفاظك للود/ وكالتيس في قراع الخطوب". فكان رد الخليفة أن وضع ابن الجهم في قصر تحيط به روضة غناء وحوريات من النساء فكان أن قال قصيدته الغزلية البديعة: "عيون المها بين الرصافة والجسر/ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري".
لن نخوض في التشكيك بحقيقة وجود الشعر الجاهلي أو تأكيده، فهناك كثير من الكتب والدراسات حولها، ومنها الكتاب المهم "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي" للدكتور عبد الرحمن بدوي، الذي ترجمها عن الألمانية والإنجليزية والفرنسية، إضافة إلى كتب طه حسين وإبراهيم عوض وغيرهما، ولكني أود أن أفتح نافذة جديدة على هذه المعلقات لأقول باختصار إن الشعر الجاهلي كان عبارة عن "سور دينية" و"آيات دينية"، تتحدث عن أماكن مقدسة في المنظور الديني للعرب، وعن آلهات عربيات قديمات مثل سلمى وليلى وسعاد.
تقول أسطورة المعلقات: إنها في الأصل كانت شعرًا من أشهر ما كتبه العرب قبل الإسلام، ونظرًا لأهميتها وجمالها فقد تم تعليقها على أستار الكعبة قبل الإسلام، بالطبع لا أتكلم عن عددها هنا، هل هي سبع أو عشر أو أكثر، ولكن يهمني العودة إلى جذور وجودها، فمن النظريات التي تقول إن أول من جمعها كان "حماد الراوية"، ثم توالى على ذكرها الرواة العرب والمؤرخون، حيث كان العرب يسمونها "السموط"، والمسمط في الشعر كما تقول معاجم اللغة العربية: هي أبيات مشطورة يجمعها قافية واحدة قيل أيضًا "الشعر ما قُفِّي أَرباعُ بُيُوتِه وسُمِّطَ في قافية مخالفة"، واللافت أن للسمط أيضًا معنى دينيًا هو "الحلفان واليمين"، والسامِطُ: المُعَلِّقُ الشيء بحَبْل خلْفَه من السُّمُوطِ والسموط هي المعاليق من القلائد. ثم صار اسمها المعلقات، والمعلقات كانت جزءًا أساسيًا من حياة العرب الدينية، وكان لها وجود على "جدران الكعبة" في الداخل والخارج، فالكعبة المشرفة قبل الإسلام كانت مقرًا لمعبودات العرب القدماء حيث كانت أشبه بعاصمة دينية تنتشر فيها أصنام ومعبودات القبائل العربية، كل قبيلة تحتفظ بإلهها المعبود داخلها، وتأتي إليه سنويًا لتهلل له وتعبده ضمن طقوس الحج، ويحدثنا الأزرقي في تاريخه "أخبار مكة" أن معاليق الكعبة كانت موجودة داخل ومنها "قرني الكبش الذين فدى بهما إبراهيم ابنه إسماعيل"، وأيضًا "صورة عيسى جالسًا في حجر أمه مريم"، وأيضًا "صورة إبراهيم" وتصاوير للملائكة"، وإلى ما هنالك.
كانت الكعبة المشرفة قبل الإسلام مقرًا لمعبودات العرب القدماء
اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الصراع السني الشيعي قبل الإسلام
وإن كان بعض المفكرين نفوا أي رابط أن يكون معنى "كلمة المعلقات" هي "القصائد التي قالها شعراء الجاهلية عُلقت على الكعبة"، إلا أنه من الطبيعي أن نجد معلقات من النصوص الدينية لمعتقدات القدماء أو تعاويذ أو آيات دينية أو سور، داخلها وحولها، وهي عادة مستمرة إلى اليوم.
والمثير حقًا هو ما يلفت إليه الباحث في اللغة السريانية "بطرس شابو" الذي يقول إن كلمة سورة ܣܘܪܬ جاءت من كلمة أسورتا، وهي تعني حرفيا "المعلقة"، ومن هذا المنطلق فإن المعلقة هي بشكل أو بآخر سور دينية.
وبالتالي فإن كلمة السمط والمعلقة التي أطلقت على المعلقات الشعرية، هي في الأصل "صور معبودات العرب الذين جسدوها "زلفى وتقربًا لله"، وهي أيضًا صور عن أفكارهم ومشاعرهم تجاهها"، تمامًا كما أصبحت تعلق بعض أيات القرآن الكريم اليوم على ستار الكعبة مع مجيء الإسلام.
والسؤال المطروح اليوم: هل ما ذكره الرواة العرب عن المعلقات التي كتبها الحارث بن حلزة، أو امرؤ القيس، أو زهير بن أبي سلمى، أو طرفة بن العبد، أو عمر بن كلثوم، أم عنترة العبسي، أو لبيد... هي ذاتها المقصودة.
أقول إنه يمكن ألا تكون هي ذاتها، وإنما تم إلصاق تاريخ "المعلقات الدينية" بتاريخ "أشهر قصائد العرب"، مع تحفظي هنا على "ما أدخل على قصائد الشعراء من أبيات لم تكن موجودة في أصلها"، بفعل عامل الزمن وتناقلها بين ألسن الرواة، وما يقع نتيجة ذلك من حذف وإضافة".
دراسة المعلقات الشعرية من منظور ديني باعتبارها سورًا، أو آيات لمعتقدات قدماء العرب، أمر جد مهم
اقرأ/ي أيضًا: تاريخ اسم عُمر وأصل العُمرة
يكفي أن نقول إن الحديث عن امرؤ القيس له علاقة بتاريخ الأبطال والملوك الكهنة، فقد تم الخلط بشخصيته بشكل مثير كما أن اسم امرئ القيس هو أقرب إلى لقب ديني أكثر من كونه ملكًا، كما أن ألقابه التي تعددت تفسيراتها كـ"الملك الضليل"، أو "ذي القروح"، تفتح المجال واسعًا لتتبع شخصيته المثيرة كذلك حال كثير من أصحاب المعلقات.
برأيي إن دراسة المعلقات الشعرية دراسة من منظور ديني باعتبارها سورًا أو آيات لمعتقدات قدماء العرب، أمر جد مهم لأنها ستتيح لنا معرفة ما أدخل عليها بفعل عامل الزمن وانتقالها بين الألسن قبل توثيقها، وحتى بعد توثيقها، أما ما قد يقال عن كثرة الأوصاف والتراكيب الجنسية فهذا أمر طبيعي جدًا، فالنصوص الدينية للشعوب القديمة تحفل بقصائد جنسية دينية لتموز وعشتار وأنليل، وغير تلك المعبودات، وهذا له علاقة عضوية بالمعتقدات الدينية التي كان الجنس جزءًا رئيسيًا منها، هذا في حال سلمنا أن المعلقات الشعرية هي ذاتها المعلقات التي نسبها الرواة العرب إلى الشعراء السابق ذكرهم، إذ يمكن أن تكون غيرها وقد اندثرت، لكن أمر المعلقات الدينية في حال خضع لدراسة متأنية سيفتح بكل تأكيد بابًا جديدًا في معتقدات العرب الدينية قبل الإسلام.
اقرأ/ي أيضًا:
تاريخ "الحنفية".. صراع اللغة والفقهاء