نشر أحدهم في أحد المواقع الإلكترنية: "بما أن ليس لديّ حساب على فيسبوك، فإنني أسعى لتكوين أصدقاء خارج فيسبوك الحقيقي، ولكن باتّباع المبادئ نفسها: أنزل إلى الشارع كل يوم، فأحدّث المارة عما أكلته، وكيف أحس بنفسي، وما قمت به أمس، وما أنا منهمك على فعله الآن، وما سأعمله غدًا. أعطيهم صورًا لزوجتي، ولكلبي وأبنائي، وكذا صورة لي وأنا أقوم بتنظيف السيارة، وصورة زوجتي وهي تخيط. أصغي كذلك لمحادثاتهم، وأقول لهم "لايك". وهكذا فقد نجحت العملية: هناك بعدُ أربعة أشخاص يتابعونني: رجلا أمن، ومختص في الطب العقلي، وعالم بالنفس".
لم أجرؤ على القيام بالتجربة نفسها فأتشبه بالفيسبوكيين أنا كذلك، إلا أنّ الدهشة لا تفتأ تتملكني مما أراه على صفحات المواقع الاجتماعية من استعراض مفرط لما كان يسمى حتى وقت غير بعيد حياة "باطنية". فربما كانت صفحات فيسبوك اليوم أنجع وسيلة للنشر. لا أقصد فحسب نشر ما يجول في الخاطر من أفكار وما تخطه اليد، وإنما نشر "كل الغسيل"، نشر كل ما يخالج النفس ويخطر بالبال، نشر الحياة الباطنية بكاملها، والكشف عن الأذواق والإحساسات والميول والعواطف، واستعراض كل الحركات والسكنات..
كان الكاتب جورج برنانوس قد تنبأ أوائل القرن الماضي بما ستؤول إليه الأمور عندما كتب "أننا لن نتمكن من فهم حضارتنا ما لم نسلم بدءًا أنها تآمر ضد أيّ شكل من أشكال الحياة الباطنية"
ربما لا يتشكل هذا الموقع إلا صورة قصوى لما يطبع الحياة المعاصرة من "عري" تعكسه شاشات التلفزيون وصفحات مجلات البيوبل التى لا ترى مانعًا في أن تنشر كل شيء عن نجوم السينما والغناء، بله نجوم السياسة والرياضة والثقافة، بحيث لا تكاد تميّز بين ما كان يعتبر "شأنًا خاصًا" وما يحسب على الشأن العام.
كان الكاتب الفرنسي جورج برنانوس قد تنبأ أوائل القرن الماضي بما ستؤول إليه الأمور عندما كتب "أننا لن نتمكن من فهم حضارتنا ما لم نسلم بدءًا أنها تآمر ضد أيّ شكل من أشكال الحياة الباطنية". ذلك ما كان بعض الفلاسفة الوجوديين قد تنبهوا إليه أيضا عندما كانوا يتوقفون عند السابقة التي تتقدم فعل الوجود ek-sister ليؤكدوا أن الوجود البشري وجود "في الخارج"، وأن "الإنسان برّا" كما كان يحلو لأستاذنا نجيب بلدي أن يقول بلهجته المصرية.
غير أن هذه "البرّا" لا يظهر أنها تقف اليوم عند ربط ما كان يسمى حياة باطنية بالموضوعات الخارجية، وإثبات "قصدية" أفعال النفس، وإنما تتجاوز ذلك لتجعل إخراج ما في البواطن، والكشف عن كل ما يخالج الصدور، وفضح كل مستور، عمليات مرغوبة لذاتها تلذذا بالفرجة، واعتبارا أن ما يهم هو أن نُرَى، أن نكون محط رؤية و"داخل مشهد" spectacle.
ولا شك أن شاشات التلفزيون قد وجدت ضالتها في هذا "العري" المرغوب فيه، كي تستثمره في برامجها، وتفتح باب المنافسة للذهاب به إلى أبعد ما يمكن. ويكفي أن نذكر بعض البرامج التلفزيونية كبرنامج التيليريالتي، كي نتصور إلى أيّ حد يستطيع الفرد اليوم أن "ينشر" حميميته.
لكن ماذا لو كان الأمر لا يتعلق إلا بوهم حميمية؟ وماذا لو كان الفرد لا يملك حتى هو نفسه التحكم في "عريه"؟ ذلك أن هذا العري يظل في النهاية عريًا غامضًا، عريًا يلفه اللبس، عريًا في حاجة إلى تحليل وكشف، عريًا في حاجة إلى تعرية. فالفرد لا يكشف في النهاية إلا ما يعتقد هو أنه ينطوي عليه من أسرار. وإذا كان مآل كل سر secret هو أن يفتضح في نهاية الأمر، فإن الغموض mystère لا يسهُل كشفه، وإنسان العصر الحديث من الغموض بحيث لا يستطيع أن ينكشف دومًا لنفسه، وبالأحرى أن يكشف نفسه للآخرين.