هل من تقدم حقيقي في تاريخ البشر، أم أن الأمر لا يعدو مجرد تباه عقيم من كل جيل "حديث" إزاء الأجيال السابقة؟ وإذا كنا على يقين بانتفاء أي تغيير جوهري طرأ على الطبيعة البشرية عبر العصور، فماذا عن كل هذه التطورات التكنولوجية الهائلة إذن؟ هل هي مجرد وسائل جديدة لتحقيق غايات قديمة: اقتناء السلع، سعي أحد الجنسين وراء الجنس الآخر، التغلب على المنافسة..؟
نشعر أحيانًا أن العصور الوسطى التي أكدت الميثولوجيا ربما كانت أكثر حكمة منا نحن الذين أكدنا العلم والتكنولوجيا
يطرح ويل وإريل ديورنت في كتابهما "دروس من التاريخ"، (ترجمة يوسف ربيع، عصير الكتب ط 2020)، سؤال التقدم إلى جانب أسئلة أخرى عديدة حول التاريخ. ويقولان: إن أحد الاكتشافات المحبطة للقرن العشرين المخيب للآمال هو أن العلم محايد: "سيقتل من أجلنا بقدر ما سيعالج، وسيدمر من أجلنا بسهولة أكبر مما يمكن أن يبني. كم يبدو الآن قاصرًا وغير ملائم شعار فرانسيس بيكون المتباهي (المعرفة قوة)".
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "المشي فلسفةً".. معنى المشي وأثره
نشعر أحيانًا أن العصور الوسطى التي أكدت الميثولوجيا ربما كانت أكثر حكمة منا نحن الذين أكدنا العلم والتكنولوجيا. لقد أنتجنا وسائل ذكية للغاية، وجعلنا كل شيء حولنا يجري بسرعة، ولكن نصحو بين وقت وآخر على حقيقة أننا لا نعرف إلى أين نمضي، لا نعرف ما هي غاياتنا.. "نحن نضاعف ونضاعف سرعتنا، ولكننا نحطم أعصابنا أثناء هذه العملية، وما زلنا قردة ترتدي سراويل، وتتحرك بسرعة ألفي ميل في الساعة، نفس القردة التي كنا عندما كنا نمشي على أرجلنا".
نحتفي بإنجازات الطب ونسعد باختراع المزيد من الأدوية، ونغض النظر عن آثارها الجانبية التي تكون أحيانًا أكثر سوءًا من الأدواء نفسها.. نعلن امتناننا للزيادة المستجدة في أعمارنا، ونتناسى أنها غالبًا ما تكون امتدادًا مرهقًا لحياة كئيبة يظللها العجز ويطوقها المرض..
ونحن نحتفل بتحررنا من ربقة الأساطير ونفاخر بتحطيمنا للمثيولوجيا، ولكن هل استطعنا أن نطور أخلاقًا لا دينية، قوية كفاية للحد من غرائز حب التملك والقتال والجنس؟ وهل بالفعل تخلصنا من التعصب أم أننا فقط حولناه من عداوات دينية إلى عداوات قومية وأيديولوجية وعرقية؟ هل أخلاقنا أفضل من ذي قبل أم أسوأ؟
يقول ديورنت إن التاريخ مترع بما يدعم كلا الإجابتين "نعم" و"لا"، ويبقى التعويل على المعيار المستخدم، على المؤشر الذي وفقه نثبت التقدم ونقيسه أو ننفيه، وإذا ما أردنا أن يكون المعيار هو السعادة، مثلًا، فقضية التقدم خاسرة لا محالة، ذلك أنه من البين أننا لا نسجل مستويات مرتفعة بالسعادة، بل على العكس نحن نسجل مستويات ربما تكون غير مسبوقة في القلق والتوتر وعدم الرضا. ولكن "يبدو سخيفًا أن نعرف التقدم بعبارات تجعل الطفل العادي نتاجًا أعلى وأكثر تقدمًا من الشخص البالغ أو الحكيم، لأن الطفل بالتأكيد هو أسعد من في الثلاثة!".
يقترح ديورنت معيارًا آخر: مستوى السيطرة على البيئة. ولا يتعلق الأمر بقدرة شريحة أو نخبة محددة، بل بقدرة الشريحة المتوسطة، ووفقًا لذلك فلا شك أن الإنسان العادي والمتوسط المعاصر قد تزود بأدوات وقدرات، أكثر من أي وقت مضى، تمكنه من التحكم بظروف محيطه. إذًا فإجابة الكتاب عن سؤال التقدم، وفق هذا المعيار المقترح، هي "نعم" بلا تحفظ.
نحتفي بإنجازات الطب ونسعد باختراع المزيد من الأدوية، ونغض النظر عن آثارها الجانبية التي تكون أحيانًا أكثر سوءًا من الأدواء نفسها
اقرأ/ي أيضًا: عن ثقافة في نفق
ولا يقتصر الأمر على مؤشرات العمر والصحة: انخفاض نسبة وفيات الأطفال، تضاعف متوسط الأعمار، انحسار المجاعات (بل انعدامها)، السيطرة شبه التامة على الأوبئة والأمراض المعدية.. بل يطال مجالي السياسة والمعرفة كذلك، فهل يرضى الأوربيون والأمريكيون المعاصرون العودة إلى النظم السياسية التي وجدت لدى الإغريق، حيث شرائح واسعة من السكان يعيشون في ظل حرمان تام من حق التصويت والترشح والحكم وإبداء الرأي؟ هل يقبلون بنظام يُنتخب فيه الحاكم من قبل الحرس الامبراطوري حصرًا، كما كان في زمن روما؟ و"هل سنفضل أن نعيش تحت قانون أثينا أو الإمبراطورية الرومانية على الدستور الأمريكي الذي يمنع عقاب المتهم دون المثول أمام المحكمة، ويضمن له حكمًا من هيئة المحلفين، ويضمن لنا حرية الاعتقاد والفكر، ويضمن حرية المرأة؟".
وماذا عن الثقافة؟ لقد كان هناك كتاب دراميون عظماء في أثينا، لكن هل كان أيهم أعظم من شكسبير أو هل كان اريستوفانس يضاهي موليير في عمقه وإنسانيته؟ وهل كانت خطابة ديموستين وإيسخينيس أقوى من تلك التي امتلكها تشاتام وبيرك وشيريدان؟ وهل يمكننا أن نضع جيبون تحت هيرودوت؟ هل يوجد أي شيء في النثر الفني القديم يضاهي في مداه وعمقه أي رواية حديثة؟..
يختم المؤلفان بالقول إن البعض ينظرون إلى التاريخ كمنذر ومذكر بجرائم الإنسان وحماقاته وحسب، وبالتالي يغدو الماضي بالنسبة لهؤلاء "غرفة محبطة مليئة بالأهوال"، وهناك نظرة أخرى ترى في التاريخ تذكيرًا مشجعًا للأرواح الخلاقة، فيصبح الماضي "مدينة سماوية، دولة فسيحة للعقل، ما زال يعيش ويتحدث ويتغنى بها الرهبان، ورجال الدولة، والمخترعون، والعلماء، والشعراء، والفنانون، والموسيقيون، والمحبون، والفلاسفة".
ويل ديورانت (1885 ـ 1981) فيلسوف ومؤرخ وكاتب أمريكي، من أشهر مؤلفاته الكتاب الموسوعي "قصة الحضارة"، وفي نهاية المجلد الأخير منه كان قد وعد بإصدار كتاب مستقل، هو نوع من التذييل، عن "عظات التاريخ"، فكان هذا الكتاب الذي بين أيدينا "دروس من التاريخ"، أما إريل فهي زوجته التي كانت شريكة ومساهمة فعالة في كثير من مؤلفاته.
اقرأ/ي أيضًا: