تم الإعلان منذ أيام عن الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد، وهو الاقتصادي الأمريكي ريتشارد ثالر، عن مُساهماته في الاقتصاد السلوكي. وكمُقدمة سريعة يمكننا أن نقول إن ثالر أكمل ما بدأه دانيال كانمان، الذي أسس لعلم الاقتصاد السلوكي بسلسلة تجارب طويلة كشفت أن سلوك البشر يحيد بشكل واضح عن افتراض الرُشد (فهم الإنسان للخيارات التي تُعظم منفعته وسعيه السليم نحو الحصول عليها)، الذي يقوم عليه علم الاقتصاد التقليدي.
يُوضح علم الاقتصاد السلوكي، عبر سلسلة تجارب، أن سلوك البشر يحيد بشكل واضح عن افتراض الرُشد الذي يقوم عليه علم الاقتصاد التقليدي
ثالر أكمل المسيرة وأوضح بسلسلة تجارب إضافية تفاصيل أكثر عن كيفية حياد السلوك البشري عن الرُشد، وأكمل قائمة الأخطاء الحدسية التي يقوم بها البشر بشكل تلقائي دون تفكير، واستخدم كل تلك النتائج في عمل توصيات رائعة غيّرت من شكل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية للولايات المُتحدة الأمريكية ودول أُخرى كثيرة.
اقرأ/ي أيضًا: نوبل للسلام لـ"آيكان".. القضاء على السلاح النووي طوق نجاة الجائزة الدولية
إحدى تلك التوصيات قامت على نتيجة توصل لها ثالر في إحدى تجاربه وتقضي أن البشر مُبرمجون كي يستمروا على الوضع الحالي (التلقائي أو الافتراضي) ما لم يتدخل مؤثر حاسم لكي يغيروا سلوكهم، فقدم توصية حلت مُشكلة قلة نسبة اشتراك الموظفين في خطط الادخار (المعاش مثلاً) حين يلتحقون بوظائفهم.
اكتشف ثالر أن الغالبية منهم حين يسجلون بياناتهم في ملفهم الوظيفي في بداية استلامهم للعمل لا يضعون علامة في صندوق الخيار الخاص باشتراكهم في خطط الادخار للمعاش (وهو اختيار حُر في الولايات المُتحدة وأغلب دول أوروبا)، اقترح ثالر على الحكومة الأمريكية أن يجعلوا الاشتراك في المعاش ساري على الكُل كوضع تلقائي على أن يقوم من يُريد إلغاء اشتراكه بوضع علامة في الصندوق المُخصص لذلك في ملف بياناته، والنتيجة كانت أن تم إدراج الملايين في خطط الادخار والمعاش بعد ذلك الإجراء البسيط.
والآن دعنا نُلقي الضوء على أربع أفكار أساسية لعلم الاقتصاد السلوكي مع الاتفاق أنني لن أقوم بالفصل بين ما قدمه ثالر وما قدمه دانيل كانمان (حائز على نوبل في الاقتصاد 2002) وتاڤرسكي ودان أرايلي، حتى نتجنب التفصيل المُجهد لقارئ غير مُتخصص في الاقتصاد السلوكي، ولكننا سنبدأ من عند ثالر ونُحاول، قدر المستطاع، أن نظل قريبين من أفكاره التي استحق من أجلها الجائزة.
غيّرت توصيات علم الاقتصاد السلوكي من شكل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية للولايات المتحدة الأمريكية ودول أُخرى
الفكرة الأولى: حساسية البشر للخسارة أكبر من حساسيتهم للربح. الخسارة تؤلم أكثر مما يُسعد الربح. البشر يخاطرون حتي لا يخسرون، أكثر مما يخاطرون للربح. ففي سلسلة تجارب طويلة، وجد ثالر وكانمان أنه حين يختار البشر بين خيار أول يتمثل في رهان على إلقاء عُملة معدنية (ملك وكتابة) ليكسب إما 20 دولارًا أو لا شيء، أو خيار ثان هو كسب 10 دولارات دون أي رهان، غالبًا ما يختار البشر الربح الصغير ولا يُخاطرون. لماذا؟ لأن الخسارة تؤلم أكثر مما يُسعدهم الربح، فالبشر يخاطرون حتى لا يخسرون، وحين يتعلق الأمر بالـ"مكسب"/ الربح، لا يخاطر البشر ويكتفون بالربح المضمون.
اقرأ/ي أيضًا: نوبل للآداب 2017 لـ كازو إيشيغورو
الفكرة الثانية: البشر يضعون صندوقًا لكُل معاملة، ربحًا أو خسارة، إضافة أو حذفًا، رصيدًا سالبًا أو رصيدًا موجبًا، ويجدون صعوبة في فهم سيولة النقود وإمكانية نقلها (في حالة الفائض أو العجز) من صندوق للآخر. مثلاً، حين ينخفض سعر البنزين غالبًا ما يستخدم الناس فرق الانخفاض لزيادة الكمية التي يشترونها أو لزيادة جودة البنزين المُختار ولا يخطر ببالهم استخدام فرق السعر خلال شهر في شراء حذاء جديد مثلاً. كل مُعاملة لها صندوق في عقل البشر يضاف إليه المكسب والخسارة، دون قدرة على نقل تلك المكاسب أو الخسارات إلى صناديق مُجاورة بسهولة.
من نتائج تجارب ثالر، التي تحصل بناء عليها على نوبل للاقتصاد، أن البشر مُبرمجون كي يستمروا على الوضع الحالي ما لم يتدخل مؤثر حاسم
الفكرة الثالثة: البشر أكثر حكمة في المُستقبل وليس الآن. إلهي إمنحني القوة للامتناع عن المعاصي ولكن رجاء ليس الليلة. حين تُخيّر أحدهم بين قطعة حلوى الآن أم قطعتين غداً، غالبًا ما يختار قطعة واحدة الآن ولكن حين تُخيره بين قطعة حلوى بعد شهر أم قطعتين بعد شهر ويوم، فإنه يرجح الاختيار الثاني. في الحالتين، للحصول على قطعة الحلوى الثانية لابد من صبر يوم، ولكننا حين نواجه الاختيار بين الآن وغدًا لسبب ما يعتقلنا "الآن" ولا نتصرف بحكمة، وحين نواجه الاختيار بين "بعد شهر أو بعد شهر و يوم"، فإننا نكون أكثر تعقُلاً وحكمة ورُشداً.
الفكرة الرابعة: أثر التشتيت. البشر لا تكون خياراتهم بشكل منعزل، ولكن كل اختيار يتم بالتنسيب مع الخيارات الأُخرى المُتاحة، أنت حين تختار شراء سيارة بي إم دابليو، عقلك يفكر ويقارن ويحلل ويضع في اعتباره مرسيدس وغيرها من باقي الخيارات الممكنة في حدود ميزانيتك. اللطيف هو أنك إن كنت تختار بين بي إم دابليو موديل 2010 ومرسيدس موديل 2010 مثلاً، فإن وجود بي إم دابليو 2008 أمامك في المعرض غالبًا ما سيجعلك تُفضل بي إم دابليو 2010 على مرسيدس 2010 في النهاية. ذاك هو أثر التشتيت والذي يقضي بأن وجود نسخة غير جيدة من البديل "أ" يجعلك تفضل البديل "أ" على البديل "ب"، حين تكون في اختيار بينهم.
وفي رأيي الخاص أن شركة آبل تُحاول استخدام هذا الأثر (أثر التشتيت) في مُنافسة سامسونج حين أصدرت آيفون 8 وآيفون X مرة واحدة في خطوة تبدو لكثيرين غير مفهومة.
اقرأ/ي أيضًا:
محمد زارع.. حقوقي مصري عاقبته الدولة وكافأه العالم بـ"نوبل لحقوق الإنسان"