بعد أن أفضت الجولة الأولى من الحوار بين الخرطوم وواشنطن إلى رفع الحصار الاقتصادي عن السودان، انتقلت العلاقة إلى مرحلة جديدة، تسعى إلى رفع اسم السودان من قائمة الدولة الراعية للإرهاب، وهو ما جعل الناس تنتبه أخيرًا إلى أن ثمة صفقة بالفعل ربما يجري تمريرها تحت طاولات التفاوض، فما هي؟
في آخر خطاب جماهيري للرئيس البشير يوم الثلاثاء، انحرف بمسار العلاقة مع أمريكا إلى منطقة الحرب الكلامية
بالرغم من أن سياسة العصا الدامية والجزرة الطاعمة ظلت هي ديدن المناورة بين الخرطوم وحكومات واشنطن المتعاقبة في الظاهر، على الأقل، إلا أن المصالح كانت غالبة في كثير من الأحيان، مع علاقة مكتومة بين الدولتين، تشير كل المعطيات إلى أنه قد حان الأوان تقريبًا إلى إشهارها.
شروط التعاون الستة
يوم الخميس الماضي أعلنت الخارحية الأمريكية تدشين مرحلة جديدة من التقارب مع السودان، آخذة في الحسبان سحب اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، على أن تأخذ المسألة ما بين ستة أشهر إلى أربعة أعوام، ورهنت التعاون بشروط ستة تشمل توسيع التعاون في مكافحة الإرهاب، واتخاذ خطوات لمعالجة بعض الأعمال الإرهابية البارزة، وتعزيز حماية حقوق الإنسان وممارساتها، بما في ذلك حرية الدين والصحافة، وتحسين وصول المساعدات الإنسانية للمناطق المنكوبة بالحرب، ووقف الأعمال العدائية الداخلية، وخلق بيئة أكثر ملاءمة للتقدم في عملية السلام في السودان، والالتزام بقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بشأن كوريا الشمالية.
اقرأ/ي أيضًا: السودان وإسرائيل.. المصالح المشتركة للأعداء
وبالرغم من أن الخرطوم رحبت بهذا الإعلان، لكنها لم تكتم سخطها إزاء سلوك الابتزاز الأمريكي المتصل، والذي بدا بلا نهاية مثل الجزرة التي يركلها البيت الأبيض وتلهث الحكومة السودانية خلفها مرة بعد أخرى. كما أنه وبالرغم من رفع العقوبات عن حكومة البشير إلا أن الوضع الاقتصادي تدهور بوتيرة متسارعة ومخيفة خلال الأشهر الأخيرة، ما حدا بوزير الخارجية السوداني الدرديري محمد أحمد، للتذكير بأنه "حتى الآن، لا يوجد أي تأثير إيجابي في السودان بعد رفع العقوبات. ما زال المستثمرون الأجانب والمصارف حذرين، ولم يستثمروا في بلد تُسميه الولايات المتحدة كدولة راعية للإرهاب".
البشير والحرب الكلامية
في آخر خطاب جماهيري للرئيس البشير يوم الثلاثاء، انحرف بمسار العلاقة مع أمريكا إلى منطقة الحرب الكلامية، والتعبير عن عدم الثقة التي لم تتوفر إطلاقًا رغم الحوار المعلن، وقال البشير موجهًا حديثه إلى دول لم يسمها: "أمسكوا عنا خزائنكم ومخازنكم، بلادنا صامدة، والمتغطي بأميركا عريان". وعلى الأرجح قصد السعودية والإمارات، مؤكدًا أنه يتوق إلى ملاقاة الشهداء، بجانب عبارته التي أطلقها في ذات اللقاء الجماهيري على ضوء أعياد الدفاع الشعبي، بأن راية الجهاد لن تسقط. وإن كان حديث البشير تحين منطق اللحظة السياسية لتجيير كتلة جماهيرية انتخابية لا يستهان بها، على قطيعة مع المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، فهو أيضًا وبالمقابل دفع بالعديد من الرسائل داخل وخارج السودان، وهي رسائل قطعًا وبكل تأكيد تحمل نبرة تحدٍ صارخة.
شراء الأصوات الدبلوماسية
وفيما تعول إدارة ترامب على نائب وزير خارجيتها جون سوليفان لإنفاذ حزمة سياسات خاصة بأفريقيا، وشراء أصوات الدبلوماسية السودانية، لم يبد الوزير الدرديري المحسوب على صقور الإنقاذ، الانحناءة المطلوبة لرياح البيت الأبيض، وطفق يحمل واشنطن المسؤولية الكاملة لما آلت إليه الأوضاع في السودان، قائلًا إن "العالم لم يعد عالمًا أُحادي القطب. الصين قدمت لنا قروضًا بقيمة سبع مليارات دولار، ولم تسألنا الصين عن وضعنا وتسميتنا دولة راعية للإرهاب، وبالمثل تركيا وروسيا موجودتان أيضًا لمساعدتنا".
في حين أن العلاقة بين البيت الأبيض والقصر الجمهوري السوداني وعواصم القارة العجوز متجذرة في الحاجة المتبادلة، عطفًا على أن المملكة العربية السعودية كانت حاضرة في تفاصيل الحوار السوداني الأمريكي، بهدف جر الخرطوم إلى محورها، إلا أن الفتور عاد بين العواصم الثلاثة مؤخرًا، ما يعني أن التطبيع مع أمريكا لن يمر هذه المرة عبر بوابة الرياض، وإنما سيأخذ مسارات أخرى مباشرة، لا أحد يعرف هل لتل أبيب دور فيها أم لا؟
مياه تحت الجسر
"عندما ترضى عنا أمريكا فنحن نسير في الاتجاه الخاطئ"، وهي عبارة شهيرة نسبت للبشير في بداية حكمه، ولا أحد يعلم هل نفدت صلاحية تلك المقولة أم لا؟ لكنها بالضرورة كانت تجسد ما تبقى من الإستراتيجية القديمة، في نبرة كراهية طاغية لامريكا وفقًا لأدبيات الاسلاميين الأولى، توجت بقذف مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم من قبل إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، وإدراج اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب عقب محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، في أديس أبابا، واتهام الخرطوم بالتورط في تلك المحاولة.
اقرأ/ي أيضًا: محاولة جادة وأخيرة للقلق حول مصير البشير!
لكن مياهًا كثيرة جرت تحت الجسر في ما بعد، وصلت مرحلة التنسيق الاستخباراتي، وانتهى الحال نسبيًا إلى نجاح في تغيير الصبغة الإسلامية الخرطومية الثائرة إلى دولة تعمل جاهدة مع المجتمع الدولي، في جهود مكافحة الإرهاب والهجرة، أو بالأحرى دولة صديقة نسبيًا لأمريكا والقارة العجوز.
ترامب صديق الخرطوم الواضح
ولعل صعود دونالد ترامب إلى سدة السُلطة بكل ما يتمتع به من وضوح سافر، أغرى الحكومة السودانية إلى تنظيم خطوات سياسية نحوه أسوة بالرياض وأبوظبي، وخرج البشير لأول مرة معبرًا عن قناعاته بأن التعامل مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، أسهل بكثير من التعامل مع الآخرين، مشيرًا الى أن ترامب "لا يهتم ببرامج الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية، فهو رجل أعمال يبحث عن مصالح الشعب الأمريكي والتعامل معه سيكون أسهل"، على حد وصف البشير الذي أضاف أن "قناعتي بأن التعامل مع ترامب أسهل كثيرًا من التعامل مع الآخرين، لأنه إنسان واضح".
قبيل صعود ترامب بفترة ليست طويلة تقريبًا، تداول الشارع السياسي السوداني ورقة قدمها المعهد الأمريكي للسلام، حررت بواسطة كل من جون تيمن مدير برنامج أفريقيا بالمعهد وبريستون ليمان المبعوث الأمريكي السابق الخاص لدولتي السودان وجنوب السودان، حول الحوار الوطني في البلاد، بالتزامن مع خطاب الرئيس البشير في قاعة الصادقة الشهير بخطاب الوثبة، وبدا أن ثمة تشابه بين وثبة البشير وخارطة الطريق الأمريكية، بجانب شهادة أطلقها مدير جهاز الأمن الوطني والمخابرات الفريق صلاح قوش، بقوله إن الـ"سي آي إيه دافعت عن السودان من داخل أمريكا".
لعل صعود دونالد ترامب إلى سدة السُلطة بكل ما يتمتع به من وضوح سافر، أغرى الحكومة السودانية إلى تنظيم خطوات سياسية نحوه
ملفات قوش المخابراتية
وكان قوش أحد أبرز شخصيات فريق تجسير العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات بعيدة، أي قبيل صعود السياسيين إلى قيادة التفاوض. وقد رسم الصحفي بجريدة لوس أنجليز تايمز الأميركية كين سلفرستين صبيحة الـ 29 من نيسان/ إبريل 2005 تلك المشاهد، قائلًا: "السي أي ايه تفتح أبوابها لرجل قصير بدين ذي وجه طفولي وشارب رفيع وسيجارة ذات دخان مكتوم"، بالإشارة إلى الفريق صلاح قوش مدير الأمن والمخابرات الحالي.
وبالمقابل بدا أن الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الساعة أكثر تفاهمًا مع النظام في الخرطوم إلى درجة تطابق وجهات النظر في بعض القضايا، منها على سبيل المثال مناقشة قضية المدمرة الأميركية "كول" التي ضربها إرهابيون في ميناء عدن قبل نحو عقدين من الزمان، ولحقت بالخرطوم اتهامات ومزاعم بأن بعض الإرهابيين الذين تورطوا في تلك الحادثة على صلة سابقة بها، وطلب من حكومة السودان دفع 315 مليون دولار، بسبب تلك المزاعم، لكن المحكمة تأجلت قبل أيام على نحوٍ مفاجئ بسبب "وجود انقسام وسط القضاة في موضوع قانوني دولي هامشي، لكنه سيؤثر كثيرًا على مجرى القضية"، وفقًا لصحيفة واشنطن بوست.
كما أعلن وزير الخارجية السوداني بعد لقاء جمع بجون سوليفان يوم الثلاثاء الماضي قائلًا: "السودان يشترك في هذه القضية مع الحكومة الأمريكية" دون تفاصيل كافية، وهذا يعني أن ثمة تنازلات من قبل الحكومة الأمريكية وأخرى أيضًا من قِبل الخرطوم في طي الكتمان، فهل هى كامنة فقط في الشروط الستة المعلنة، أم أن إسرائيل اللاهثة وراء التطبيع ومثلها العواصم العربية حاضرة بكثافة في هذه الصفقة؟
اقرأ/ي أيضًا: