للموظفِ تعريفان متناقضان، فهو ذلك المثقف الخبير العارف، بالنسبة لبسطاء الناس مِمَن يكتفون بتعريف سطحيٍ من تعاريف الثقافة التي تربو على المائة تعريف، والثقافة تعني لهم تلك القدرة على فك الأحرف ومعرفة مَن سيفوز بالانتخابات وإمكانية قراءة وصفات الأدوية، أما الموظف بالنسبة للفنانين عمومًا، والشعراء خاصة، فهو تلك الصورة الراسخة عن الرجل الذي لا يهمه الشعر أو الإبداع بقدر ما يهمه عالم الأموال والمعيشة الأرباح والحوافز والمكافآت والمخصصات.
يجرّنا الحديث عن ثنائية الموظف والشاعر إلى الحديث عن لغة شعرية ولغة وظيفية بالطبع، تبدو اللغة الوظيفية حتى بالنسبة لمن يتقنها غير ملزمة بأن تكون منطوية على صور واستعارات ومجازات وإحالات، فهي بعبارة أخرى مكتوبة لكي لا يتم تأويلها حتى مع وجود سياقات خاصة يتم العمل بها منذ زمن مثل الفرق الشهير بين كلمة يرجى وأرجو، إذ تتم المخاطبة من قبل الأدنى إلى الأعلى بعبارة "يرجى"، ومن قبل الأعلى إلى الأدنى بعبارة "أرجو"، رغم ما في ذلك من طبقية مضمرة، فالأدنى يخاطب مَن هو أعلى عبر الفعل (يرجى) المبني للمجهول إشارة الى أنه لا يعرف مقام من يخاطبه، فيما الأعلى يخاطب مرؤوسيه عبر الفعل المبني للمعلوم "أرجو"، أنه بصراحة يخاطب مخلوقات معروفة ومكشوفة بالنسبة له.
اللغة الوظيفية لغة مكثفة مثل قرينتها اللغة الشعرية، ولكن ذلك مِن أجل غايات تخص دورها، فهي ليست لغة للتواصل إنما لإصدار الأوامر أو لإزالة سوء الفهم
ومع ذلك فإن اللغة الوظيفية لغة مكثفة مثل قرينتها اللغة الشعرية، ولكن مِن أجل غايات تخصها فهي ليست للتواصل إنما لإصدار الأوامر أو لإزالة سوء الفهم، أعني أنها لا تقصد تعريف المرء بذاته أو تعريفه بالآخرين، بقدر ما هي طريقة لممارسة سلطة، أو للدفاع عن وجود غير أصيل، وجود المرء كموظف لا كإنسان، وهي بذلك ليست كينونة الكائن حسب هايدغر، إنما هي سجنه أو ثكنته العسكرية، فما يقوله الموظف عبر لغته هو ما ينبغي قوله لا ما يريد قوله، وإذا كانت لغة الشاعر تصنع عالمًا ميتافيزيقيًا فإن اللغة الوظيفية لا تحاول حتى الاقتراب من المفاهيم التي تعبّرُ عنها.
أيُّها الموظف هل تريد أن تقرأ الكتب فعلًا؟
لا يمكنني إخفاء شعوري بالسأم عند قراءة مجمل الكتب إذ يبدو الاستمتاع عقيمًا وبعيدًا، ولا يمكنني الحفاظ عليه، وبصرف النظر عما يعنيه هذا الاستمتاع، وعما إذا كانت هناك معايير تخصه، فإن القراءة واحدة من أشد الهوايات مللًا وإزعاجًا، ولا سيما تلك الكلمات المرصوفة التي تملأ صفحات عديدة من أجل أن تعرّفك بأشياء تبدو بالنسبة لك عديمة الجدوى، أو عادية وضمن السياق نفسه، فالاستمتاع بالقراءة لا يشكل بالنسبة لي معيارًا لجودة القراءة او إتقان الكاتب لحرفته، بل على العكس من ذلك يخيل لي أني مطالب بأن أقاوم السام حين أستمر بقراءة كتاب مع أنه لم يعد سلسًا ومكشوفًا، كون الاستمتاع يقترن بالمشاهدة أو التصفح العابر لا بالتركيز والمتابعة.
ولعلي أسوق تلك المقدمة لأخبر رفاقي الموظفين بأنّ متعة قراءة الكتب لن تكون مطابقة لما يقال عنها، وأن الشعر لا يجعل العالم مثاليًا أو ساميًا، أو أقل قذارة وجشعًا ونذالة، وأن كتابًا وشعراءً كثر لم يكونوا أقل دناءة من غيرهم ولم تكن أحوال وهموم الآخرين تعنيهم بشيء.
وكما يخيل للنخب أن الموظف بعيد عن واقع بلده وأنه ابن بارّ لسلطة معينة، فإن المثقف قد يلعب دورًا أخطر من هذا بكثير، يتمثل بمحاولته التبرير لبؤس الواقع الاجتماعي وإشاعة لغة الإحباط واليأس، وإيهام العالم بأن الجميع فاسدون، وتعليق المشاكل اليومية التي يمكن معالجتها دون فلسفة على شماعة كبيرة تبدأ بالقيم الكونية، وتنتهي بالعبادات والطقوس الفردية على الأغلب.
على المبدع ألا يكون موظفًا فاسدًا
يحقُّ لي أن أعتبرَ هذا العصر عصر الوظيفة، وأعني أن البشر أكثر من أي وقت مضى يبحثون اليوم عن الوظائف، فلم تعد الطبيعة تلك الغابة التي توفر لصغارها طعامًا ومنامًا ومقامًا مجانيًا على نحو غير مشروط، إذ جعلَ - ليس النظام الرأسمالي وحده، إنما طبيعة الحياة وتطوراتها الحتمية- العالم مفهومًا نقديًا وانتفت المجانية في أي مجال من مجالات الحياة، كل شيء يباع، كل شيء قابل للتداول سوقيًا، وبعبارة أخرى يجوز لي القول إن العالم الحديث ينطوي على مفارقة فيما يخص حاجات البشر ورغباتهم، تكمن في صعوبة الحصول على شيء وسهولة تناوله واستهلاكه.
وضمن السياق نفسه فإن الفنانين لم يعودوا أكثر من موظفين لدى سلطة ظاهرة، أو خفية، ولا أقصد بالطبع سلطة النص وقوة الملكة الإبداعية، إنما ألاحظ كما يلاحظ غيري كيف ينقسم المبدعون في معظم دول العالم إلى موالين أو معارضين للأنظمة، وكما يستفيد الموالون من أنظمتهم علانية يقبض المعارضون أموالًا هائلة من أنظمة أخرى عبر جوائز ومشاركات ومنح شتى.
ولا يعيب على المبدع أن يكون موظفًا بالطبع، فالوظيفة هي سعيه للعيش دون فقر وحاجة وصعلكة، لكن العيب يكمن في أن يكون موظفًا فاسدًا وخادعًا لبسطاء الناس عبر تثويرهم فيما ينعم هو بالأمان الشخصي على الأقل، فضلًا عن حصوله على امتيازات من جهات عدة، أو عبر تخوينه وتحطيمه وتجريده لأقرانه من أي سمات إنسانية بمجرد ما يشاهد أنهم يصطادون من ضفة أخرى.
ساهمَ سلوك المبدعين على مرّ التاريخ بابتعاد الناس عن الشعر أو اقترابهم منه، فلم يعد ينظر إلى الشعر في أحسن أحواله إلا ككلام معسول، لا رؤية فيه، ولا جدوى منه، ولا اعتماد عليه
وإذا تحدثنا عن أعضاء الاتحادات الدائمين، أو المؤقتين، فإن تقصيرهم أو فقر رؤاهم وفسادهم.. كل ذلك يمكن تسميته بالإخفاق الوظيفي لا الإبداعي، وهو ما يدلّ على حيوية الوظيفة لأن فشل العمل الإبداعي يمكن تأويله فنيًّا حتى مع سذاجته أو ركاكته، لكن الواجب الوظيفي لا يمكن تبريره أو التغاضي عنه أو مسامحته، وباختزال فإن عمل الفنان الإبداعي يخدمه شخصيًا، أو يخدم فنه بالدرجة الأولى، أما عمله الوظيفي إذا كان موظفًا فإنه يخدم الناس باختلاف توجهاتهم وميولهم.
العودة إلى العنوان
ساهمَ سلوك المبدعين على مرّ التاريخ بابتعاد الناس عن الشعر أو اقترابهم منه، فلم يعد ينظر إلى الشعر في أحسن أحواله إلا ككلام معسول، لا رؤية فيه، ولا جدوى منه، ولا اعتماد عليه، بمعنى أن قراءة الشعر لم تعد ضرورية أو ملحة، حتى مع استمرار الشعراء أنفسهم بالحديث عن الدفعة الجمالية التي يضخها الشعر في روح العالم أو في جسده، وهذا لا خلاف عليه، لكن السؤال كيف نجعل الموظفين يقرؤون الشعر؟ أو بعبارة أبعد؛ كيف نجعلهم يقرؤون؟
من خلال تجربتي الشخصية أظن أن لا حيلة ناجعة في حث إنسان على القراءة، لكن ثمة وسائل يمكنها تحقيق جزء من الطموح، أهمها برأيي أن تسعى دور النشر إلى طريقة تسويق مغايرة لطرقها السائدة، وأعني أن يكون لديها باعة جوالون يدخلون المقاهي والدوائر والساحات والحدائق، إحدى أهم خطوات السعي نحو الكتاب هو أن يكون الكتاب موجودًا، أن يكون حاضرًا وضروريًا، وإلا ما جدوى معارض الكتب التي تقام في العواصم غالبًا بإعلانات فقيرة وإعلام خافت؟
ينبغي على الناشر والكاتب ألا يتحدثا بفوقية عن الموظفين، وألا يلومونهم على عدم اقتناء كتاب سعره لا يتجاوز سعر وجبة فطور، فللموظف أعمال أخرى أهم من قراءة الكتب، والأجدر بالناشر أن يبحث عنه ثم يعرض عليه مطبوعاته، وليس على الموظف أن يجري خلف المعارض. ثمّ لماذا يلوم الناشر الناس على عدم اقتناء الكتب إذا كان الكاتب ذاته لا يبحث عن كتب أصدقائه، ولا يقتنيها، ولا يقرؤها، فكل ما يقوم به هو التقاط الصور برفقتها في المعارض إذا كان مدعوًا؟
وبالتالي فإن الموظفين لا يقرأون الشعر الجيد لأن الشعر الجيد بالنسبة لهم خفي، غير ملموس أو لعله غير مكتوب، إلى حد أني عرفتُ من خلال الحديث مع العديد منهم أنهم يعتقدون أنه لا يوجد شعر رومانسي في العصر الحديث غير ما كتبه نزار قباني، ولا شعر سياسي غير ما كتبه النواب، وإن اقترحتُ عليهم أن يقرؤوا شعرًا إنسانيًّا له رؤى مغايرة للسياسة والحب غير هذين الاسمين الشائعين، فبالطبع سيجيء الجواب صادمًا، لكنْ ألا يحق لي أخيرًا أن أخفي الجواب، أو أترك لك إمكانية تخيله طبقًا لمحيطك الآنيّ عزيزي الكاتب.