وصلت بلادًا تبدو على حافة هذا العالم، بلاد الله البعيدة التي يفقد فيها الثلج بهاءه من حدة التكرار، ويصبح للبريد معنى لأنه الوحيد الذي يطرق بابك، هو أو الله.
عراة من النعاس الرائق من ادعاءات مريحة أننّا بخير، عراة من البلاد، والوطن فينا سحيق كذكرى
في تلك البلاد قد تطمر بشيئين، بالحنين والورق. معجونة بهما أقف على باب حكايتي، ألتقط المتناقضات، ألملّمها كما تُجمّع الفراشات، وتُلوّن الأيام سيئة السمعة بالببغاوات الاستوائية، أدق حيطان عمري، نازعة غطاء الخوف عن الروح التي ترتجف مما ترى، أطالع وجهي في كل أنواع المرايا، بينما أُخضع مساماتي لمحاكم التفتيش، كمكارثي بائس أحلم بتثبيت الحقيقية بالصفات السهلة، كأن أكون جميلة، ممتلئة، أو باردة، فجعة، كاذبة، موتورة، بينما ما أريده حقًا هو صفاتٍ زلقةٍ غنائيةٍ كأن أكون دراقة، برقوقة أو غزال، هكذا حتى تنتهي الصفات ولا أنتهي.
أكتب كل هذا، ولدي ما يكفي من الدموع والاكتئاب، والجنون الكافيين كي أفك شيفرات الحياة التي أعيش، تحت سمع وبصر قراء لا مبالين، وممارسة علاقة حب تحدد بروتوكولاتها منذ أول نظرة، لمسة، وأول سرير، مع كائن خرافي بآلاف الرؤوس يدعى "القارئ".
ما الذي أوصلني هنا، عند حواف العالم، ما الذي تخلى عني ورماني لأنزلق في فجوة اسمها العالم الآخر، أكتب حكايتي دون أن أستطيع تثبيتها بتعريف شافٍ، لأنها تزلق كأرنب وتدخل جراب الساحر، وتطالبني بتعريفات جديدة، تخدعني كأنها انزلاق الزيت على الرخام، تبدو سهلة، وتتجاهل ببراءة كاذبة كمّ الأجساد التي سقطت في طريقها.
خرجت من الشام كالكل، خرجنا عراة.. عراة من النعاس الرائق، والكذب الأليف، من ادعاءات مريحة أننّا بخير،عراة من البلاد، والوطن فينا سحيق كذكرى، نقف متوثبين على رؤوس أمنياتنا، بأظافرنا نتسلق حيطان الوقت ولا ينزّ سوانا، خرجنا بأرقامنا، وحكايتنا كلها أرقام. عامان، خمس، ألف.
خارج الشام كنت أحبو تجاه الوقت وكل ما فيَّ متردد اليقين، غائم كالمعنى في قصيدة حداثية. والواقع سريالي أكثر من حكايات السحرة والجان. تنقلت من رمل الصحراء الحارق إلى حريق آخر، صقيعي الملمس أزلي البقاء، أبيض ككفن.
في كندا، يصبح الحب ضرورة، والذكريات تبدو مؤنة لائقة للاجئين
في الرحيل، لم يفدني شيء، لم تتحسن لغتي كما اعتقدت أنها ستفعل، لم يفجرها السخط، ولا النزق منحها الغنى، كبر بي الزمن دون أن يخبرني كما فعل دائمًا وابتلعتني المرارة، فكل اعتقاداتي السابقة شمّرت عن ساقيها وأنزلت سروالها كي تريني مؤخرة المهرج. فالبلاد ظلت من بعدي وظلت من دوني.
يشغلني الحب عن موت آسر، وأنا أنظر من شباك لا يحمل غير الثلج، ولا يؤمن إلا بالبياض، في كندا، بلدي الهاجع في عزلته، مع السناجب التي تلعب بقمامتك وحيدة، وتخربش باب صمتك، يصبح الحب ضرورة، والذكريات تبدو مؤنة لائقة للاجئين، أشمشم القصص وألاحق العشاق.
أنشغل كالدنيا بقلب جورج كلوني الذي دق لصبية ستمنحه وريثًا، وأذوب بينما أقرأ مادة صحفية عن وردة الجزائرية وبليغ حمدي، صحفي كتب ذاته وسال ماء، في صورتهما وهما يعلنان الحب والشهوة، في ذروات نبيذ يكرعها الشاب الأسمر مختلطًا ببحات وآهات ونهنهة صوتية للسيدة البضة ووركيها الوارفين. كتب هاني درويش عن وردته وفضاء الزمن السبعيني عندما كان متاحًا لشادية أن تصبح "معبودة الجماهير" دون أن يعترض مطوعو الفضيلة، لا يعبد سوى الله، الصحفي مات كضوء في حلم، وبقيت سيرة الحب في مادة صحفية عاشت أطول منه، أفرح لأن صديقة صديقتي تزوجت برجل طلّق لأجلها زوجته، بينما في البرد غير المنتهي أقرأ قصيدة لشاعر لم يكتبها لي.
كتب محمد بنميلود:
أحِبُّكِ، وأنتِ لا تفهمين ذلك،
تأتي القطارات وتمضي، ثقيلة جدًّا فوق السكّة،
أنتِ لا تعرفين شيئًا عن حياتي الّتي تخطفها حياتُكِ من محطّات مهجورة،
من العربات الأخيرة،
لقطار الأيّام.
تظنّين كل شيء حزنًا في حزن،
فقط لأنَّكِ يتيمة كشجرة صغيرة في الأصيص الكبير،
في الدّار الزّليجيةّ الحزينة،
بعيدًا جدًّا،
عن الغابة.
مقتربة من روح الله، من الموت الآمن، أسأل عن اللغة والشعراء، عن العشاق والأسى، عن الجنس والشبق، عن الحب والخذلان، عن البلاد، هل هناك من هواجس أخرى للعيش، غير هواجس هذا الثلج!؟
اقرأ/ي أيضًا: