كرة القدم اللّعبة الأكثر شعبيّة في العالم لكنها لعبة مثيرة للجدل. مثلما يتابعُها الملايين من الناس عبر العالم يتجاهلها الملايين أيضًا ولكلّ منهم أسبابه. دورة كأس العالم هذا العام في قطر، تحظى باهتمام كبير كالعادة، اهتمام عربيّ وعالميّ بهذه الجودة التي دأبت الدولة المضيفة منذ عقد تقريبًا على تقديمها بوصفها ممثلة للعرب وحريصة دائمة على تقديم أبهى صورة.
دورة كأس العالم هذا العام في قطر تحظى باهتمام كبير كالعادة، اهتمام عربيّ وعالميّ بهذه الجودة التي دأبت الدولة المضيفة منذ عقد تقريبًا على تقديمها بوصفها ممثلة للعرب وحريصة دائمة على تقديم أبهى صورة
شخصيًا، لست متحمّسًا محترفًا، لهذه اللعبة، لكنّني أتابع حسب الوقت والمزاج.
وأيضًا لست بصدد تحليل مباراة محدّدة أو أكثر، فهذا ليس اشتغالي، إنما هي محاولة في هذه العجالة لفتح صفحة حوار مع القرّاء بشأن كرة القدم كظاهرة معاصرة. على ما تنطوي عليه هذا اللعبة الشعبية من قيم العمل بروح الفريق وتأجج المشاعر الوطنية عند اللاعبين والجمهور على حد سواء وبناء الهجمة، كما بناء القصيدة، إذ أنّ ذروة الدّهشة هي معانقة الكرة للشّباك، وكانوا يسمونها "بيت القصيد"، وما يولّده اهتزاز الشِّباك من ردود فعل مهتاجة، بخلاف القصيدة التي يعقبها ردّ فعل متأمل، لكن المتعة تكاد تتشابه: الدهشة غير المتوقعة بعد بناء هجمة كروية أو بناء قصيدة، وصفها بابلو بازوليني بقوله: "المراوغة والتهديف هما اللّحظتان الفردانيتان الشعريتان لكرة القدم.
من يرى مثلي أنّ في كرة القدم لحظات شعريّة؟ يتعلّق الأمر باللّحظات الّتي يظهر فيها الفعل المُفضي نحو الهدف. كلّ هدف يكون دومًا ابتكارًا، ودومًا تشويهًا للسّنن وخرقًا للأبواب الموصدة. يكون فيه دومًا شيء ما حتمي، ساطع، مدهش، لا يمكن تفاديه.
ثمّة مفارقة مهمة إثر ردود الفعل المهتاجة، ذلك أنّ الهياج السّعيد والهياج الغاضب، كليهما، يتخليان عن السّعادة والغضب الضروريين إزاء ما يحدث في العالم، ويصيران قيمتان إنسانيتان مختلفتان تمتصان اللحظة الإنسانية الضرورية وينقلانها من مكانها الطبيعي، إلى أماكن أسمى وأرقى.
كتب الشاعر السوڤييتي يفغيني يفتيشنكو، في إحدى قصائده، ساخرًا من الهياج الغاضب: "الظلم.. الظلم، ولكن أين؟ في ساحة كرة القدم".
ما يميّز كرة القدم تلك ميزتان أساسيتان بهجة الدهشة ولذة الانفعال وحرقة المتابعة والانتظار. تلك الأشياء والتفاصيل الصغيرة قد لا تشيخ معنا نحن جمهور الشعر وكرة القدم.
بعض الأشياء التي كانت تدهشنا لم تعد تدهشنا، وهذا يعود إلى حيوية التّذوق وديناميكية إيقاعنا الشابتين اللتين افتقدناهما، أو هما تراجعا، قليلًا أو كثيرًا، فلم نعد نجد بيليه أو أوزيبيو، بين لاعبي اليوم، ولَم نعد نجد بدر شاكر السياب أو يفتيشنكو بين شعراء اليوم.
السبب لا يعود إلى تطور تربيتنا الكروية أو الشعرية، أو كليهما معًا، رغم حصول هذا، لكن العالم هو الذي تبدل تقنيًا وذوقيًا ونقديًا بعد أن صارت العولمة تجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه، وعلى أهمية ذلك من حيث تقريب أجزاء الأرض البعيدة من بعضها بعضًا، إلا أن الوجه الآخر هو تفريقها وإبعادها عن بعضها البعض. ذلك البعد ما يلبث أن ينتهي الآن ونحن نتابع تلك المباريات ونفرح ونتحيّر ونغضب ونُستفز وكأنّنا جالسون مع في غرفة واحدة.