يخوض وجدي الأهدل في "أرض المؤامرات السعيدة" (دار هاشيت أنطوان – نوفل، 2018) غمار الكتابة عن حياة المواطن اليمنيّ المجهول والمعزول في آن معًا، داخل وطنه وبين أبناء جلدته. يصوِّره صاحب "قوارب جبلية" في الرواية، مستندًا إلى صورته الأصلية في الواقع: مواطنًا يصلُ به شعورهُ بالغربة إلى درجةٍ تحوُّله، أوّلًا، لاجئًا داخل نفسه. وثانيًا، مغتربًا عنها. ولا يسعى الأهدل هنا إلى استعراض الحياة اليومية لهذا المواطن في مجتمعه الذي يبرزُ في هذا العمل ملوَّنًا بشتّى أطياف العنف والقمع، بل يحاول أن يقطع مسافةً أبعد من ذلك، يكشف عبرها الأسباب التي تقف خلف حالته المزرية، وواقعه المرير والمطوّق بأسوارٍ شاهقة الارتفاع، نصبتها ثنائية الأعراف القبلية والسلطة ومؤامراتِهما معًا ضدّ من يقف في وجههما.
يعي وجدي الأهدل جيدًا خصوصية المجتمع اليمنيّ – مجتمعه – الذي ينوي نبش المخبوء فيه، وهتك أسراره المُحرّمة والمحصّنة بالعنف والخوف
يعي الأهدل جيدًا خصوصية المجتمع اليمنيّ – مجتمعه – الذي ينوي نبش المخبوء فيه، وهتك أسراره المُحرّمة والمحصّنة بالعنف والخوف. وبالتالي، يدرك جيدًا صعوبة العمل المقدم على تنفيذه، وتحديدًا، الإحاطة بهذا المجتمع الشائك والمتشعِّب من جميع جوانبه وجهاته المختلفة والمُعقّدة. ولذلك، يتّجه وجدي الأهدل إلى تأسيس حدثٍ يجعل منه أساسًا لكلّ الأحداث التي تُبنى لاحقًا في الرواية: فتاة قاصر ترعى أغنامها في وادٍ في إحدى قُرى مدينة الحديدة. وهناك، تتعرّض للاغتصاب على يد شيخ يُسمّى بكري حسن، ولكنّه ليس أي شيخ، إنّه أحد رجالات السلطة الأوفياء. الشيخ ينفي وقوع الحادثة، ولكنّ صحفيًا محسوبًا على المعارضة مرّ في القرية مصادفةً، يحوّل حادثة الاغتصاب إلى قضية رأي عام تقود الشيخ نحو التحقيق والمحاكمة، وتضع السلطة، مبدئيًا، في ورطة.
اقرأ/ي أيضًا: وجدي الأهدل.. في يمن "المؤامرات السعيدة"
من شأن حادثة الاغتصاب هذه، وما سيترتّب عليها لاحقًا من أحداثٍ وانعطافاتٍ حادّة في سير خطّ السرد داخل الرواية، أن تقدّم صورةً كاشفةً للمجتمع اليمنيّ تتجاوز الأبواب المغلقة، وأحيانًا، تقتلعها من مكانها بعنفٍ أيضًا. ذلك أنّها، أي حادثة الاغتصاب، تتشعَّب وتتوزَّع على طيفٍ عريض من الشخصيات المنتقاة بعناية شديدة (مطهَّر، جليلة، الشيخ بكري، رياض، سلام، سامي، غالب...)، بحيث تُمثّل كلّ شخصية، لا نفسها فقط، إنّما جهة ما مسؤولة عنها، وتعمل لحسابها. بحيث تُكوّن هذه الشخصيات، من خلال تجاربها وأفعالها وعلاقاتها وصدامها ببعضها البعض صورة اليمن كما لم نعرفها من قبل. فالعلاقة المتينة بين الشيخ بكري حسن والسلطة، تكشف عن تواطئ الأخيرة مع الأعراف القبلية، وغضّ بصرها عن زواج القاصرات واغتصابهنّ والتجارة بهنّ أيضًا. بينما تكشف العلاقة بين الصحفي مطهَّر والسلطة عن واقع المثقّف الرث الذي يحوّله ارتهانه إلى السلطة كائنًا سلطويًا ومافويًا أشدّ سوءًا من السلطة نفسها، وأكثر منها تزويرًا. ولذلك، سيزوّر مطهَّر، وبأوامر من مرؤوسه الذي يمثّل سلطةً تجتهد لإنقاذ الشيخ، حقيقة جريمة اغتصاب الطفلة جليلة، ويلصقها بمجهول لتبرئة الشيخ بكري حسن.
يمكن القول إنّ وجدي الأهدل يبدي إلمامًا واضحًا بالتنويع، لجهة الأحداث والشخصيات، باعتباره جزءًا من محاولته بالاحتكاك بالواقع اليمنيّ، واستفزازه بقصد إثارة الإشكاليات الكامنة فيه ليتمكّن من بلورتها للقارئ لاحقًا. ولذلك، وزّع المثقّف/الصحفي في الرواية على صور ثلاث، هي: الصحفي المناضل أو المعارض، والصحفي السلطويّ، والصحفي المقنّع. كوّن الأهدل صاحب "بلاد بلا سماء" بهذا الثلاثي مساحةً شخصية يتأمّل فيها طبيعة علاقة المثقّف بالسلطة والمجتمع معًا، بتقلّباتها وتذبذباتها وتجاذباتها المتعدّدة. فالأوّل، الصحفي المعارض، يظهر في العمل على علاقة وطيدة بمجتمعه وهمومه، باعتبار أنّ الأمر عتبة أولى لمهاجمة السلطة، دون أن يعني ذلك أيضًا استغلاله لمآرب شخصية. بينما يظهر الصحافي السلطوي مدفوعًا إلى أحضان السلطة من باب الندّية، والتمرّد على المسار الذي سلكه والده مناضلًا في صفوف المعارضة. ولكنّ ما يتضّح مع تطوّر السرد وتصاعده شيئًا فشيئًا أنّ ما ولدّ هذه الرغبة عنده هو جهله بنفسه، وانعدام ثقته بها. ومن الممكن إعادة سبب ذلك إلى الحضور المتداول بصورة مستمرّة لسيرة والده النضالية التي طغت على حضوره، وظلّ مرتهنًا بها، ومُطَالبًا بتكرارها بدوره.
أمّا بشأن الصحفي المقنّع، فتُجسّد علاقته بالسلطة، طبيعة العلاقة الحقيقية بين المثقّف والسلطة القمعية والأمنية، أي العلاقة التي تنهض على استخدام الدولة للمثقّف مقابل مجموعة من المكافآت والمناصب. لكنّ لحالة غالب زبيطة، أي الصحفي المقنّع، خصوصيتها وتفرّدها، ذلك أنّ مهمّته اختراق المعارضة والتجسّس عليها بوصفه صحافيًا مُعارضًا أوّلًا، ورئيسًا لتحرير صحيفة تقف ضدّ الدولة ولا تنفكّ تهاجمها ثانيًا. وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى التشابه الحاصل بين شخصية مطهَّر فضل، صحفي السلطة، وغالب زبيطة، صحفي المعارضة زيفًا، لجهة ارتهانهما معًا للمؤسّسة الحاكمة بوصفهما أداةً في يدها. لكنّ المفارقة التي تُعطي لكلٍّ منهما ما يميزه عن الآخر، بغضّ النظر عن اختلاف المهمّات، هو أنّ غالب زبيطة صحفي سلطوي من النوع المحترف والمدرك جيدًا للعمل المكلّف بتنفيذه. بينما يقف مطهَّر فضل على العكس منه تمامًا، ذلك أنّه وجد نفسه فجأةً، ودون قصد أو رغبة، متورِّطًا في تحريف السلطة للحقائق والوقائع في قضية اغتصاب الشيخ بكري حسن للطفلة جليلة، قبل أن يتحوّل، دون أن يعي ذلك، إلى المسؤول الأوّل عن هذه القضية بفعل تقاريره التي سعت إلى تبرئة الشيخ والنيل من الطفلة ومن يقفّ في صفّها من ناشطين ومؤسّسات حقوقية. أدرك مطهر أخيرًا أنّ الواقع الذي فرضه على نفسه، لا يملك فرصة للنجاة منه، سوى بالمضي قدمًا لاكتشاف ما ينتظره في نهاية المطاف، حيث تقع الكارثة، ويكتشف أنّه وقع ضحية ألعاب السلطة التي حوّلته مدانًا بحوادث استعباد واغتصاب فتيات قاصرات، هنّ في الأساس فتيات يعملن عند الشيخ بكري حسن.
تحمل رواية وجدي الأهدل "أرض المؤامرات السعيدة" مآسي متنوّعة، تبدأ بمأساة الفتيات القاصرات، وأيضًا مأساة الصحافيين المُعارضين
إذًا، ما حدث مؤامرة مدبّرة من الشيخ والسلطة معًا، الهدف منها شغل الرأي العام بمطهّر فضل، وإعادة قضية اغتصاب الطفلة جليلة إلى الهامش مجدّدًا، تمهيدًا لتبرئته.
اقرأ/ي أيضًا: يوسا.. هل السياسة أقرب إليه من الفن؟
تحمل رواية وجدي الأهدل "أرض المؤامرات السعيدة" مآسي متنوّعة، تبدأ بمأساة الفتيات القاصرات والمملوكات لمشايخ القبائل الذين يتخذونهنّ إمّا لممارسة الجنس والعبودية، أو التجارة بهنّ. وأيضًا، مأساة الصحافيين المُعارضين الذين يقعون ضحية النفوذ الواسع لمشايخ القبائل، وأولئك الذين يقعون ضحية السلطة. وأخيرًا، مأساة اليمن. إنّها رواية تحتشد بالأسى.
اقرأ/ي أيضًا: