دائمًا ما يبدو السؤال عن الآليات التي يعمل من خلالها فيسبوك ملحًا، إذا أصبح هذا النمط الذي اقتحم به فيسبوك حياتنا الخاصة والعامة، وأنماط التواصل في فضاءاتنا جميعها، معضلة تؤرق كثير منا. في هذه المقالة المترجمة عن مجلة "The New Atlantis"، يقترح نولين غيرتس أستاذ الفلسفة في جامعة تفينتي الهولندية، أربعة مستويات لفهم طرائق الهيمنة التي ينتهجها فيسبوك.
في حال أردنا تحسين خطابنا الرقمي وتنظيف منصّات وسائل التواصل الاجتماعي خاصّتنا، يتوجّب علينا البدء بفهم الكيفية التي تؤثّر بها تلك المنصّات علينا، وماهية طبيعتها "الاجتماعية" تحديدًا. إذ إن تأثيرها علينا شديد الخفاء والإحكام، ولذا نفشل غالبًا في رؤية كيفية تشكيلها إيّانا.
ينبغي ألّا نكون راضين عن مجرّد تنظيم دور فيسبوك في المجال العام. بل يتوجّب علينا بدلاً من ذلك السؤال عن ماهية المجال العام وحياتنا الخاصة، اللذين سمحا لفيسبوك باحتلال هذا المكانة البارزة
وكمثال على ذلك الفشل، خذ بالحسبان البحث الذي قادته عالمة الحاسوب كاري كاراهاليوس عام 2013، حيث بحث فريقها في مدى وعي الناس بالخوارزمية المحدِّدة لتحديثات منشورات أصدقائنا الفيسبوكّيين التى نراها على "خدمة آخر الأخبار" (التايم لاين). إذ وجد الباحثون أن 25 من بين 40 مستخدم للفيسبوك في الدراسة كانوا غير واعين أو غير متأكّدين مطلقًا، من خضوع "خدمة آخر الأخبار" للغربلة والتصفية، كما ذكرت مجلّة التايم:
وعندما حُلّلت الخوارزمية لموضوع واحد، قارنت كاري الأمر باللحظة التي اكتشف فيها نيو (من فيلم الماتركس) اصطناعية المصفوفة (Matrix). إذ تقول "تلقّينا العديد من ردود الفعل الانفعالية على اكتشافنا من أولئك الذين لم يكونوا على علم بها". وتضيف: "ووقع عدّة أشخاص تحت تأثير الصدمة لخمس دقائق".
العبرة من الحكاية تكمن في الحاجة إلى السؤال ليس عن ماهية فيسبوك وحسب، بل عمّا يعنيه لنا اجتماعيًا وثقافيًا أيضًا. ولا ينبغي أن نتفاجأ من عدم فهم مستخدمي الفيسبوك لكيفية عمل خوارزميته، بل لا بدّ وأن يمنحنا ذلك المجال لإدراك أن اكتشاف وجودها ذاته، يبعث في النفس مشاعر بعمق اكتشاف نيو أن العالم مجرّد وهم ولا يقلّ عنه أهمّية. لذا يتوجّب علينا محاولة التعرّف على طبيعة الفيسبوك، لأنّه أضحى ضخمًا للدرجة التي لم يعد فيها للأغلبية مجرّد موقع على الإنترنت، بل كجزءٍ لا يتجزّأ من نسيج الواقع اليومي.
واحدة من الطرق لفهم طبيعة الفيسبوك، تكمن في التمييز بين الهيئات المتنوّعة الممكن له اتّخاذها، إذ يساعدنا ذلك على إزالة الالتباس الواقع كلّما سلّمنا بأن كل من يتحدّثون عن الفيسبوك، يتحدّثون عن الشيء نفسه.
فمثلًا، دقّت التقارير حول تورّط فيسبوك في الفضائح المحيطة بالانتخابات الأمريكية لعام 2016، المتراوحة بين توزيع المعلومات المغلوطة وإساءة استخدام بيانات المستخدمين، ناقوس الخطر حول مخاطر الموقع على الديمقراطية عالميًا. لكن من السهولة بمكان، في مثل تلك الفضائح، التركيز على إعدادات الخصوصية الفيسبوكّية، وصورتها العامّة، وشهادة مارك زوكربيرغ أمام الكونغرس، بينما نفشل في التفكير بالكيفية التي يشكّل بها استخدامنا للفيسبوك علاقاتنا أو دورنا في المجال العامّ.
يوجد الفيسبوك بهيئات عدّة. والحديث عن شكل واحد فقط من التأثير الفيسبوكي كالانتهاكات المتكرّرة لخصوصيات المستخدم مثلًا، يعتبر إغفالًا لأشكال التأثير الأخرى، كقدرته على تمكين المستخدمين من انتهاك خصوصيات بعضهم البعض. ومن هنا، بالإمكان فهم الأسباب وراء ضحالة تأثير الانتقادات المستمرّة للفيسبوك، بل وحتّى فضيحة شركة "كامبردج أناليتيكا" وانتهاك البيانات الهائل عام 2018، على أداء الشركة التجاري طويل الأمد. إذ كانت الإيرادات وأعداد المستخدمين أعلى ممّا كان متوقّعًا نهاية العام الماضي!
لفهمٍ أفضل للأشكال المختلفة للتأثير الفيسبوكي، من المفيد اللجوء إلى تحليل قام به فيلسوف التقنية دون إيد، حيث يميّز في كتابه "التقنية والحياة" (1990) بين أنواع متعدّدة من العلاقات بين البشر والتقنية، ويناقش أن التقنيات ليست مجرّد وسائل لتحقيق الغايات البشرية، بل تشكّل الكيفية التي يرى بها الإنسان العالم ويتصرّف فيه. ستساعدنا تصنيفات إيد لهذه العلاقات المختلفة على رؤية الأشكال المتعدّدة للتأثيرات الفيسبوكّية علينا.
- التبعية: الفيسبوك كملف شخصي
يستعمل المستخدمون الفيسبوك كموقعٍ شخصي يجمع وظائف التدوينات، ورسائل البريد الإلكتروني، وقوائم الأحداث، والمنتديات، والإعلانات المبوّبة، وألبومات الصور في مكان واحد. ممّا يمكنه جعل الفيسبوك يبدو كما لو كان امتدادًا إلكترونيًا لاتصالات المرء اللاإلكترونية. بالإمكان التعبير عن تلك العلاقات بعبارة إيد؛ "العلاقات التجسيدية" بين البشر والتقنية، التي تقام عندما تصبح التقنيات العاملة على تحسين إمكانيات البشر الجسدية، جزءًا من شعورنا المتجسّد بالذات. فمثلًا، بإمكان زوج نظّارات تحسين بصرنا، لكن في الوقت نفسه، فالنظّارات ذاتها أصبحت تشعرك وكأنّها امتداد لا مرئي للعينين، مع تركيز الانتباه على ما يمكن رؤيته، بعيدًا عن الدور الذي تلعبه النظّارت في تشكيل ما يُمكن رؤيته.
يعمل فيسبوك كملف شخصي مثل النظارات نوعًا ما، إذ يعزّز قدرتنا على التواصل مع الآخرين ويركّز اهتمامنا على ذلك التواصل، إلّا أن هذا الاهتمام يقودنا إلى إغفال الدور الذي يلعبه فيسبوك في تشكيل ذلك التواصل. وهكذا يميل المستخدمون إلى اعتبار فيسبوك مجرد أداة اتصال شديدة القوّة تصل إلى الكثير من الأشخاص، بينما يتجاهلون عمل فيسبوك على تحديد كيفية تواصلنا وماهيته، الذي يكاد لا يشبه التواصل في الحياة اليومية. تحديثات الحالة، والتعليقات، والإعجابات، والمشاركة، والميمات، والرموز التعبيرية، وصور GIF، كل تلك أشكال محدّدة جدًّا من التواصل عبر الإنترنت، وليست صيغًا موسّعة لما بالإمكان قوله لصديق وجهًا لوجه. لكن من السهل نسيان هذا، والتفكير بدلًا من ذلك بالفيسبوك كمجرّد وسيلة فعّالة للتواصل مع المزيد من الأشخاص.
في العلاقات التجسيدية، تبدو التقنيات وقد أصبحت جزءًا منّا. إذ تمكّننا بحيث نعتاد على الاعتماد عليها، ممّا يتركنا عرضة للتبعية. فعندما نستعمل خرائط غوغل للعثور على طريقنا، فنحن نعتبرها مجرّد وسيلة راحة وتسهيل، ولكن لو نفذت بطارية الهاتف الذكي، فسنضطرّ فجأة إلى إدراك مدى ضياعنا بدون إمكانية الوصول إلى خرائط غوغل. وبالمثل، نظرًا للاعتياد المتزايد على التواصل عبر فيسبوك، أصبحنا شديدي الاعتماد عليه، والارتباط به، لدرجة اعتقادنا بعدم قدرتنا على حذف حسابنا حتى لو أردنا ذلك، إذ بذلك نفقد القدرة على التواصل مع أصدقائنا.
- التضليل: الفيسبوك كمنصّة
يستعمل المستخدمون الفيسبوك كشبكة شاملة أيضًا، وكوسيلة لا يقتصر استخدامها على إبقاء الاتّصال بأصدقائنا وأفراد عائلتنا الحاليين، بل ومقابلة أشخاص جدد، والتفاعل مع شخصيات عامّة لا نعرفها شخصيًا، ومواكبة الاطّلاع على الأحداث الحالية. بالإمكان التعبير عن تلك العلاقات بعبارة إيد "العلاقات الهرمنيوطيقية"، التي تقام عندما توسّع التقنيات من قدراتنا على استيعاب وتأويل العالم من خلال السماح لنا بالوصول إلى أجزاء منه، ليس بالإمكان الوصول إليها بطريقةٍ أخرى. فمثلًا، بإمكان جهاز الكشف عن الإشعاعات، كعدّاد غايغر، رصد المواد المشعّة، وإرسال إشاراتها إلى أجهزة الحاسوب التي تترجم الإشارات وتعرضها على لوحات تحكّم بإمكان البشر قراءتها، إلّا أنّنا ننسى دور تلك الأجهزة ونكتفي بالقول إنّنا نرصد المواد المشعّة.
يزيد فيسبوك من إمكانيتنا على الوصول إلى معلومات جديدة، ويركّز اهتمامنا على تلك المعلومات الجديدة، ممّا يقودنا إلى إغفال الدور الذي يلعبه في الوصول إلى تلك المعلومات. قد نفكّر في فيسبوك كمساحة فارغة عبر الإنترنت؛ لجمع المعلومات ومشاركتها بين المستخدمين، بينما نتجاهل أن الفيسبوك نفسه يحدّد المعلومات التي نتلقاها- كما هو الحال عندما تمنح خوارزمية التغذية الإخبارية الأولوية لبعض المنشورات بينما تُخفي أخرى وتحدّد كيفية استقبالها- من خلال المنشورات والإعلانات والتنبيهات والدعوات والطلبات والإشعارات المنبثقة.
في العلاقات الهرمنيوطيقة، نختبر التقنيات كجزء من العالم. نظرًا لثقتنا عادةً بدقّة المعلومات المنقولة عليها حول العالم، وبهذا نكون عرضة للمعلومات المضلّلة، سواء كانت ناشئة عن أطراف فاعلة أو عيوب في العرض التقني للمعلومات. تعود أحد الأسباب في تعرّض المحطّة النووية في جزيرة ثري مايل إلى انهيار جزئي، كما يشير إيد، إلى لوحات التحكّم سيّئة التصميم، ممّا دفع المشغّلين البشر إلى إساءة قراءتها. وبالمثل، على فيسبوك، لا يمكن بسهولة تأويل محتوى المعلومات الجديدة التي نتلقّاها بمفردها، لأنّها تُقدّم إلينا بطريقة تفسح المجال لسوء الفهم. مثلًا، عند ظهور عنوان رئيسي خارج السياق الأصلي في منشور أحدهم، أو عند ظهور صورة بلا شرح مكتوب (كابشن) يوفّر لنا السياق الضروري للفهم. ولذا فإن تحذيرات "الأخبار الزائفة" تضعنا في موقف مشابه لرؤية ضوء "تفحّص المحرّك"check engine في السيارة، إذ نحن غير قادرين على معرفة ما إذا كانت المشكلة في المحرّك أم الضوء، ولذا نستمرّ في القيادة على أمل ألّا تحدث مشكلة.
- التلاعب: الفيسبوك كشركة
يتعامل المستخدمون مع الفيسبوك حتى من دون إدراكهم لذلك أحيانًا، مثلًا، من خلال التطبيقات الأخرى التي تملكها مجموعة فيسبوك كإنستغرام وواتس آب، والخدمات التي تبيعها؛ لا سيّما الإعلانات المصمّمة والموجّهة بناءً على بيانات المستخدمين. بالإمكان التعبير عن تلك العلاقات بعبارة إيد "العلاقات الخفيّة"، إذ بإمكان التقنية العمل وراء كواليس الحياة اليومية بينما تشكّل جزءًا لا يتجزّأ منها. فمثلًا، تتيح لنا أنظمة الإضاءة الداخلية العمل دون الحاجة إلى الإضاءة الطبيعية، وتُصمّم أيضًا للعمل دون أن يلاحظها أحد حتى نتمكّن من تنفيذ مهامّنا دون الحاجة إلى التفكير فيها، خلاف تشغيلها وإطفائها.
بإمكان الفيسبوك طبعًا تزويد المستخدمين بالخدمات "المجّانية" الخاصّة بـ"الفيسبوك كملف شخصي" و"فيسبوك كمنصّة" وذلك ليس إلّا لقدرته على إيجاد طرق أخرى لتحقيق الدخل نظير خدماته، كبيع الإعلانات. لكن، وكعلاقة خلفية، لا يهدف فيسبوك أبدًا إلى جعل إمكانياته على تحقيق الدخل مرئية للمستخدمين. إذ يُفترض اعتيادنا على رؤية أزرار "أعجبني" ظاهرةً على المواقع الإلكترونية حيث نبتاع أو نقرأ الأخبار، ورؤية إعلانات تلك المواقع نفسها في "خدمة تغذية الأخبار" (التايم لاين)، بلا أدنى شعور بالقلق من ملاحقة الفيسبوك إيّانا عبر الإنترنت!
في العلاقات الخفية، تتوارى العمليات التقنية عن الأنظار، وتتركنا عرضة للتلاعب. فأنظمة الإضاءة ما عادت مجرّد إنارة لورش العمل، بل تصمّم اليوم لتحسين الحالة المزاجية والإنتاجية، ممّا قد يدفع العمّال إلى الاعتقاد بأنهم يحبّون وظائفهم أكثر، بينما في الواقع يحبّون الإضاءة أكثر. وكما الحال مع أنظمة الإضاءة تلك، لا نلاحظ ائتلاف شراكات الفيسبوك إلّا حينما يقع شيءّ غير عادي، كما في فضيحة كامبردج أناليتيكا. إلّا أن الفضائح ليس ما ينبغي أن يثير اهتمامنا، بل علينا بدلًا من ذلك، الشعور بالقلق إزاء حجم مجريات حياتنا اليومية المُعتمدة اليوم على عمليات تُحاك خلف الكواليس لـ"الفيسبوك كشركة". ولأن معظم النشاطات الفيسبوكّية تحاك في الخفاء، قد يحسب الأشخاص الواعون بسياسات الخصوصية أنفسهم أحرارًا من "الفيسبوك" إذا لم يملكوا حسابًا عليه، رغم مواصلتهم استخدام الإنستغرام والواتس آب، أو قد يكون لديهم أصدقاء أو أقارب أو زملاء أو معارف يتردّدون إلى الفيسبوك وأعمال تُدار عليه، تقوم بمشاركة المعلومات حولهم على الفيسبوك، ممّا يمكّنه من خلق ما أصبح يعرف بـ"الملف الشخصي الزائف" أي بيانات الفيسبوك المتوفّرة حول أشخاص لا يملكون حسابات شخصية عليه.
- الإلهاء: الفيسبوك كزوكربيرغ
لا يتفاعل الفيسبوك مع مستخدميه وحسب، بل ومع العالم أجمع أيضًا، سواء من خلال منشورات مارك زوكربيرغ الشخصية، والاعتذارات العلنية، والمقابلات الإعلامية، أو في الآونة الأخيرة، من خلال شهاداته أمام الكونغرس. وبالإمكان التعبير عن تلك العلاقات بين التقنيات والبشر بعبارة إيد "العلاقات الغيرية" التي تُقام عندما تلفت التقنيات الانتباه إلى أنفسها من خلال محاكاة أفعال الكائنات الحيّة، مما يدفعنا إلى نزع صفات حياتية عليها. فمثلًا، تتحدّث الربوتات كـSiri وAlexaكالبشر، مما يدفعنا إلى التفاعل معها كما لو كانت بشرًا، لدرجة أنّنا نتصرّف عندما يسعدوننا أو يغضبوننا كما لو كانوا مسؤولين مباشرةً عن ذلك، وننسى للحظة دور مبرمجيهم
مارك زوكربيرغ ليس روبوتًا، لكن جنوح البعض إلى تصوّره كذلك يستحق أن يؤخذ على محمل الجدّ. لأن "فيسبوك كزوكربيرغ" لا يزال يعمل، مثله مثل الروبوت، في علاقة غيرية، إذ يركّز انتباهنا بعيدًا عن العالم، العالم الذي خلقه "فيسبوك كشركة" تحديدًا. بالطريقة نفسها التي ركّز بها الناس على ستيف جوبز أو بيل غيتس بدلًا من أبل أو مايكروسوفت. تمكّن زوكربيرغ من إبقاء الجماهير مركّزةً عليه، صارفًا إيّاها عن الأسئلة حول كيفية تأثير الفيسبوك علينا وراء الكواليس.
في العلاقات الغيرية، تهدف التقنيات إلى جذب انتباهنا، ولأن بإمكانها تسليتنا أو إغاضتنا، تجعلنا عرضة للإلهاء. لاقت لعبة Pokemon Go إشادة عظيمة، من حيث هي لعبة فيديو بإمكانها دفع الناس إلى الاستمتاع بالعالم الخارجي، ومع ذلك غفل اللاعبون عن العالم الخارجي من حولهم وتعرّضوا للعديد من الحوادث ممّا اضطر الشركة المصنّعة إلى البدء بتنبيههم "ابق متيقّظًا من محيطك في كلّ الأوقات".
وبالمثل، سواء أحبّ الناس زوكربيرج أم كرهوه، فهم مشتّتين من قبله. فكلما ألقى تصريحات حول رؤيته لفيسبوك، قامت وسائل الإعلام والجماهير ولم تقعد، فيناقشونها ويتأوّلونها كإشارات عمّا سيفعله فيسبوك لاحقًا. وذلك يحافظ على وهم أن الفيسبوك نتاج رؤية تقنية هدّامة، لا مجرّد شركة متعدّدة الجنسيات تعمل بنفس معظم الطموحات والممارسات الرأسمالية كأي شركة أخرى متعدّدة الجنسيات. والأهمّ، يساعد ذلك في تحويل انتبهانا بعيدًا عمّا فعله فيسبوك ماضيًا، وما يفعله حاضرًا، بما في ذلك فضائحه، بل التركيز على ما خطّط له زوكربيرغ وحسب مستقبلًا.
اقرأ/ي أيضًا: هل يتجسس زوكربيرغ على هواتفنا ليعرف ما نريد؟ هذا رد فيسبوك
ونظرًا لاحتلال الفيسبوك مكانةً بارزة في المجال العام، يتحمّل بالتالي مسؤولية تقويم ممارساته، وجعلها أكثر شفافية، لأنّ ذلك من شأنه مساعدة المستخدمين على مكافحة المخاطر الناشئة عن أشكال التأثير الفيسبوكّي المختلفة: التبعية، التضليل، التلاعب، الإلهاء. ومع ذلك، علينا إدراك أن الضغط العام من أجل تحقيق قدر أكبر من الشفافية، حتى من خلال لوائح التنظيم التي أقرّ زوكربيرغ أنها "أمر لا مفرّ منه"، قد يعمل في حد ذاته على صرف انتباهنا بدل مساعدتنا، لأن ذلك سيكون حلًّا تقنيًا لمشكلة اجتماعية أعظم. فمحاولة تقويم آفة اجتماعية تقنيًا، هو ما أدّى تحديدًا إلى المشكلة التي نواجهها مع منصّات التواصل الاجتماعي كفيسبوك في المقام الأوّل! ومثلما أدّت بنا الرغبة في التجوّل في المدن بسهولة وتكلفة زهيدة إلى عدم إصلاح البنية التحتية الحضرية التي عفا عليها الزمن، وبدلًا من ذلك، إنشاء شركة أوبر. فالرغبة في أن نكون أكثر اجتماعية دفعتنا إلى عدم التساؤل عمّا إذا كان التقدّم التقني يجعلنا غير اجتماعيين، بل بدلًا من ذلك، إنشاء شركات كفيسبوك وتِندر.
يوجد الفيسبوك بهيئات عدّة. والحديث عن شكل واحد فقط من التأثير الفيسبوكي كالانتهاكات المتكرّرة لخصوصيات المستخدم مثلًا، يعتبر إغفالًا لأشكال التأثير الأخرى، كقدرته على تمكين المستخدمين من انتهاك خصوصيات بعضهم البعض
لذا ينبغي ألّا نكون راضين عن مجرّد تنظيم دور فيسبوك في المجال العام. بل يتوجّب علينا بدلاً من ذلك السؤال عن ماهية المجال العام وحياتنا الخاصة، اللذين سمحا لفيسبوك باحتلال هذا المكانة البارزة. وإذا كان فيسبوك يسدّ الفراغ في حياتنا العامّة والشخصية، فإن إصلاح أو حتى استبدال فيسبوك ليس أفضل من التعامل مع سفينة غارقة من خلال محاولة البقاء جافًا بدلاً من محاولة منع نفسك من الغرق.
اقرأ/ي أيضًا: