يعدّ الشاعر والروائي الألماني و.ج. سيبالد (1944 - 2001) أحد أكبر الأدباء المعاصرين. تدور أعماله حول الذاكرة وفقدانها، كما تتناول التدهور في الحياة والحضارة، وتسعى إلى عرض صدمة الحرب العالمية الثانية وتأثيرها على الشعب الألماني في معالجات أدبية شديدة الخصوصية. هذه ترجمة لآخر حوار أجري معه، يتحدث فيه عن حياته من النشأة وحتى الشهرة، وهو واحد من حوارات قليلة ومهمة مع الكاتب.
- ولدت في ڤرتاخ إم آلگوي"Wertach im Allgäu"، بافاريا، في 18 أيار/مايو 1944، في سنوات اضمحلال الرايخ الثالث. كيف تصفون خلفيتكم العائلية؟
كانت قرية ڤرتاخ تضم حوالي ألف نسمة، في وادٍ مغطى بالثلوج لمدة خمسة أشهر في السنة. كان مكانًا صامتًا. لقد نشأت مع جدي، لأن والدي عاد من معسكر أسرى الحرب في عام 1947، وعمل في أقرب بلدة صغيرة، لذلك لم أكن أراه كثيرًا. عشت في ذلك المكان حتى أصبحت في سن الثامنة. جاء والدي من الطبقة العمال، وصغار المزارعين، والعمال الزراعيين، ثم ارتفع مستواهم المعيشي خلال السنوات الفاشية؛ فقد خرج والدي من الجيش برتبة نقيب. بالنسبة لمعظم تلك السنوات، لم أكن أعرف إلى أي فئة ننتمي إليها. ثم تكشفت "المعجزة الاقتصادية" الألمانية، لذلك ارتفعت الأسرة مرة أخرى. احتل والداي مكانة "جيدة" في مجتمع الطبقة المتوسطة-الدنيا.
و.ج. سيبالد: العمود الفقري الأخلاقي للأدب هو حول مسألة الذاكرة
كانت تلك الطبقة الاجتماعية حيث كان ما يسمى بمؤامرة الصمت أكثر حضورًا. حتى وصلت إلى سن السادسة عشر أو السابعة عشر، لم أسمع عمليًا أي شيء عن التاريخ الذي سبق عام 1945. فقط عندما كنا في السابعة عشرة شاهدنا فيلما وثائقيًا عن معسكر بيلسن للاعتقال. وكان علينا بطريقة أو بأخرى أن نجعل عقولنا تلتف حوله - وهذا بالطبع ما لم نفعله. كان في فترة ما بعد الظهر، وكانت هناك مباراة لكرة القدم بعد ذلك. لذلك استغرق الأمر سنوات لمعرفة ما حدث. في منتصف الستينات، لم أستطع أن أتصور أن هذه الأحداث لم تحدث إلا قبل بضع سنوات.
اقرأ/ي أيضًا: الفكرة التي صنعت كافكا
وشغلني أكثر فأكثر عندما جئت إلى هذا البلد [في عام 1966]، لأنني في مانشستر، أدركت لأول مرة أن هذه الأحداث التاريخية قد وقعت لأشخاص حقيقيين. [كان أحد الشخصيات في رواية "المهاجرون" (1993) يقوم جزئيًا على مالك المنزل الذي سكنه سيبالد في مانشستر، وهو لاجئ يهودي] كان المرء يكبر في ألمانيا في سنوات ما بعد الحرب من دون أن يلتقي بأي شخص يهودي. كانت هناك جماعات صغيرة في فرانكفورت أو برلين، ولكن في بلدة إقليمية في جنوب ألمانيا لم يكن لليهود وجود. ما أدركته لاحقًا هو أنهم كانوا في كل هذه الأماكن ثم اختفوا، أو تم إخفاؤهم. لذلك مررت بمراحل متتالية من تفتح الوعي.
- عملك يجمع عدة مجالات - السيرة الذاتية، والسفر، والمقالات التأملية – حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال، والفن والتوثيق. كنت قد قلت أن الأحداث الكبيرة حقيقية بينما التفاصيل من نسج الخيال. ما الذي ألهم روايتك الأخيرة "أوسترليتز"، وشخصية جاك أوسترليتز؟
وراء أوسترليتز شخصان أو ثلاثة، أو ربما ثلاثة أشخاص ونصف، حقيقيون. واحد هو زميل لي والآخر هو شخص شاهدت وثائقيًا عنه عن طريق الصدفة. لقد أسرتني قصة امرأة إنجليزية على ما يبدو [سوزي بيشوفر]، التي جاءت، كما يبدو، إلى هذا البلد مع شقيقتها التوأم وترعرعت في أسرة كلفينية ويلزية. توفيت أختها، ولم تكن تعرف أن أصولها كانت في دار للأيتام في ميونيخ. ضربت تلك القصة على الوتر الحساس. فقد أخذت ذهني إلى ميونيخ، أقرب مدينة كبيرة إلى القرية التي نشأت فيها، فكنت أستطيع أن أشعر بمدى الرعب والضيق.
- جاك أوسترليتز يستعيد ذكرياته في الخمسينات من العمر، منذ وصوله إلى بريطانيا من براغ على كيندترانسبورت. الكثير من عملك يدور حول الذاكرة: عدم موثوقيتها، وعودتها المفجعة بعد سُبات. هل الأدب له دور خاص يلعبه في إحياء الذكرى؟
العمود الفقري الأخلاقي للأدب هو حول هذه المسألة، مسألة الذاكرة. في ذهني يبدو واضحًا أن أولئك الذين ليس لديهم ذاكرة لديهم فرصة أكبر بكثير ليعيشوا حياة سعيدة. ولكن هذا شيء لا يمكنك الهروب منه: فتكوينك النفسي قد يجعلك تميل إلى النظر إلى الوراء. الذاكرة، حتى لو قمت بقمعها، سوف تعود إليك، وسوف تشكل حياتك. بدون ذكريات لن يكون هناك أي كتابة: الوزن الذي تحتاجه الصورة أو العبارة تحتاج لكي تصل إلى القارئ يأتي فقط من الأشياء التي نتذكرها - ليس من أمس ولكن من فترة طويلة.
- عملك غير مباشر، ومبدئي في نظرته تجاه الهولوكوست؛ ويتجنب الإثارة. برأيك، ما هي المعضلات التي تواجه الكتاب في معالجة هذا الموضوع؟
في تاريخ الكتابة الألمانية في فترة ما بعد الحرب، خلال السنوات الخمس عشرة أو العشرين الأولى، تجنب الناس ذكر الاضطهاد السياسي - السجن والإبادة المنهجية لكل الشعوب والجماعات في المجتمع. ثم بداية من عام 1965 أصبح هذا الشغل الشاغل للكتاب - ولكن ليس دائمًا في شكل مقبول. لذلك كنت أعرف أن الكتابة عن هذا الموضوع، وخاصة بالنسبة للأشخاص من أصل ألماني، محفوفة بالمخاطر والصعوبات. يمكن بسهولة ارتكاب الزلات الخرقاء، سواء الأخلاقية والجمالية.
و.ج. سيبالد: في تاريخ الكتابة الألمانية في فترة ما بعد الحرب تجنب الناس ذكر الاضطهاد السياسي
وكان من الواضح أيضًا أنك لا تستطيع أن تكتب مباشرة عن رعب الاضطهاد في أشكاله القصوى، لأن لا أحد يستطيع أن يتحمل النظر في هذه الأمور دون أن يفقد عقله. لذلك عليك أن تقترب من زاوية، وتوحي إلى القارئ أن هذه الموضوعات لا تفارق الذهن. وجودها يظلل كل جملة تكتب. إذا استطاع المرء أن يعطي ذلك مصداقية، يمكن للمرء أن يبدأ في الدفاع عن الكتابة عن هذه المواضيع.
- كتبك تعطي انطباعًا وثائقيًا، وذلك باستخدام الصور بالأسود والأبيض، ولكن وضعهم غير واضح، أو ما إذا كانت الصور تعود إلى الشخصيات المذكورة في القصة. لماذا تهتم بالتصوير الفوتوغرافي، ولماذا تسعى إلى إحداث حالة من عدم يقين لدى القارئ بشأن الحقيقة؟
لقد كنت دائمًا مهتمًا بالصور وجمعها، ليس بشكل منهجي ولكن بشكل عشوائي. كانت تضيع، ثم تظهر مرة أخرى. وجدت قبل عامين في متجر خردة في شرق لندن، وجدت بطاقة بريدية لمجموعة مغنيين متجولين من مسقط رأسي. كانت تجربة مذهلة. هذه الصور القديمة دائما ما تبدو لي وكأن نداءً كتب عليها، وكأنها تقول "يجب أن تكتب عني قصة". في "المهاجرون" هناك صورة جماعية لعائلة يهودية كبيرة، كلها ترتدي زيًًا بافاريًًا. أن صورة واحدة تخبرك عن التاريخ الألماني-اليهودي أكثر من ما قد تقدمه دراسة كاملة.
اقرأ/ي أيضًا: تشارلز سيميك والكتابة في العتمة
- لماذا تستمر في الكتابة باللغة الألمانية؟
لقد عشت في هذا البلد أطول بكثير مما عشته في بافاريا، ولكن القراءة باللغة الإنجليزية جعلتني أدرك أن لهجتي مضحكة. على عكس كونراد أو نابوكوف، لم يكن لدي الظروف التي كانت ستجبرني على التخلي عن لغتي الأم تمامًا. ولكن قد يحين الوقت عندما تبدأ مواردي الألمانية في الانكماش. إنها نقطة حساسة، لأنك تصبح متميزًا إذا كنت تستطيع استخدام أكثر من لغة. لكن سوف تعاني أيضًا من مشاكل أخرى، لأنه في الأيام الصعبة لن تثق بنفسك، سواء في لغتك الأولى أو في لغتك الثانية، وهكذا سوف تشعر وكأنك أحمق جدًا.
اقرأ/ي أيضًا: