بدايةً وجب التنويه إلى أنّ الحديث هنا ليس مقصودًا به إطلاق الأحكام على أحد أو شيء، وإن كان ذلك لا ينفي أن بعضها موجود هنا وهناك، بغير قصد أو بقصد غير مُدرَك، لكن المقصود في المقابل هو التوصيف.
وما سيوصّف هنا، لا يبدو أنه حديث عهد بالبشرية، ولكن أعتقد أن عوامل التطور البشري الطبيعية، جعلت منه ظاهرة فجّة، وهو ما أشار إليه قبل أكثر من 700 عام الشاعر المصري تركي الأصل، جمال الدين بن نباتة، وذلك في بيت شعر قال فيه: "كلامك يا هذا كفارغ بندقٍ.. خليّ من المعنى ولكن يقرقع".
منذ نحو 700 عام، وصف الشاعر جمال الدين بن نباتة، الكلام الفارغ بقوله: "كلامك يا هذا كفارغ بندقٍ.. خليّ من المعنى ولكن يقرقع".
ومن هنا فإنّ الحديث عن الكلام "الفارغ" ليس من باب السباب، وإنما التوصيف كما فعل بن نباتة، الذي زاد فحدد أيّ الكلام الفارغ ما يقصده، فقال: "خليّ من المعنى ولكن يقرقع"، وعلى الأغلب فإنّ الكلام الفارغ معظمه خليّ من المعنى، ولكن ليس كله "يقرقع".
اقرأ/ي أيضًا: الكتابة الأدبية في المستنقع الفيسبوكي
ويمكن لهذه القرقعة أن تشمل الكلمات والتعبيرات "المكلكعة" بالعامية المصرية، والتي تعني شديدة التعقيد بلا جدوى في الأغلب، وهذا تحديدًا ما أشار إليه ابن نباتة. وفي العادة تُكسِب مثل هذه التعبيرات صاحبها صيتًا ككاتب "عميق"، كونها في النهاية تعبيرات عصيّة على الفهم، ليس لعبقريتها، حاشاها، وإنّما لخلوها من المعنى، أو مجرد كلام فارغ.
وقد شاع ارتباط القرقعة الفارغة بحديث ونصوص "الخبراء الاستراتيجيين"، قبل أن نصبح جميعًا، وعلى حين غفلة منّا ومن الزمن، خبراء استراتيجيين. ولها في الأدب باعٌ طويل أيضًا، يُمكن تلمسها في النصوص التي يقول أصحابها إنهم يمثلون بها "مدارس أدبية" هي من اختراعهم، إذ تتجاوز فيه رحابة اللغة العربية ومفرداتها وعناصر تراكيبها، إلى ضيق "الفذلكة".
وفي هذا السياق أتذكر قصة طريفة حدثت لي، في اللحظة الفارقة التي تحولت فيها من الجرأة على الحق بإنتاج كتابات فارغة وطفح مشاعر مُزيّف، إلى الشك الدائم في كل ما أكتبه وما أقرأه، وكانت بمثابة الدرس الأول القاسي الذي تعلمته في هذا الصدد، حين أطلعت أحد أساتذتي الأفاضل على نصٍّ أدبي لي، ليسألني بجدية: "القصة مترجمة؟"، كغرّ شعرتُ وقتها بالفخر الشديد، لظني أن في سؤاله مديحًا أو تلميحًا بعالمية النص! قبل أن يصفعني بقوله: "إيه الـ*را ده"، وهكذا في اعتقادي يكون التعلّم؛ بالتجربة الشخصية جدًا، القاسية جدًا.
يُذكر أن نفس هذا النص، والذي كنت وقتها شديد الفخر به، قد ترشح آنذاك لقائمة أفضل خمسة نصوص على إحدى المواقع الأدبية الهامة وقتها! وفي هذه فائدة أُخرى بالنسبة لي، وهي ألا أنبهر كثيرًا بالأسماء الرنانة، وأن أتشكك دائمًا، كموقف مبدئي، فيما أكتب وفيما يُكتب.
والآن، وفي سياق التطور البشري، تتحفنا "صناعة المحتوى" بماسورة كلام فارغ انفجرت في وجوهنا، تكاثفت لسبب وبدون سبب، وأصبحت تجارة يقتات عليها المئات ويبتلعها الملايين، في ظل حالة انتكاسة لخطاب عام بائس، بمفهوم فوكو للخطاب، لتكتمل الدائرة بسلاسل لا تنتهي من "تزوجها كذا/هكذا" و"تزوجيه كذا/هكذا"، أو "لا تتزوجيه كذا/هكذا" و"لا تتزوجها كذا/هكذا"، وعلى هذا المنوال يحرث الجميع في الماء منتشين من جمهور عريض مُهلل أو منتقدٍ من داخل الخطاب، بأن النصيحة بزواج كذا وليس كذا الآخر، على سبيل المثال.
هذا النوع من النصوص "الفارغة" تمثل خطابًا انتحاريًا
ويقف السؤال حائرًا عن ماهيّة التجربة "الكاملة" التي دفعت شخصًا ما بكامل قواه العقلية، لأن يزيح علينا فشل تجاربه المراهِقة، أو اكتفائه من القراءة بكتابة رأيه الشخصي جدًا، كأي نابغة فذ كوّن وجهة نظره في الحياة عن كل شيء بطريقة البناء الضوئي!
وهذا النوع من النصوص، يُمّثل ما يسميه الدكتور أسامة القفاش بـ"الخطاب الانتحاري"، الذي يُصنّف نصوصه تصنيفًا جديرًا بالاهتمام، لأنّه يضع أيدينا على منتج متعدد، شديد الخطورة من حيث قابلية ابتلاعه وما قد ينبني على ذلك من رؤية خاطئة للعالم من حولنا، وقبل ذلك لأنفسنا كفاعلين سلبيين، وذلك لأنّ هذا النص من هذا الخطاب العام، "أُحادي الاتجاه، لا حوار فيه، لأنه نص سلطة في الأساس"، كما يقول القفاش.
اقرأ/ي أيضًا: نار الكتابة وماؤها
يُمكن النظر إلى الكلام الفارغ أيضًا كتعبيرٍ عن الجو العام المنتَج فيه، حيث لا مكان للمنطق وحُكمه على حواراتنا وتعاملاتنا وتبادلنا للمعرفة، ففي النهاية يخرج هذا النص من فم أو من قلم من هو ضمنيًا في موقف السلطة أو القوة، لذا فإن استهلاكه وابتلاعه مُبرر في ذاته بموقف منتجه "الكاتب" أو "الأديب" أو "الناشط" أو "الخبير"، وليس كل الناس خبراء ونشطاء وكتابًا وأدباء.
ويحمل الكلام الفارغ كثيرًا من صفات الكسل، لذا ليس غريبًا أن تجد إعلاميًا أو كاتبًا شهيرًا، يكتب منشوراتٍ على فيسبوك يفضفض فيها مع متابعيه بحواديت مسلية، ليسميها "مقالات" هي في رأيه إنتاج فكري له حقوق الملكية الفكرية. الشيء الوحيد الذي له حقوق ملكية فكرية في هذه المنشورات هي القصص الشخصية التي بطبيعة الحال لا يُمكن نقلها إلا بردّها لبطلها.
الشاهد في الأمر، أنه على الأغلب، لا يبذل كاتب الكلام الفارغ مجهودًا يُذكر في كتابته، من جهة لأنّه في الأساس فارغ، ومن أُخرى لأن بذل المجهود، وذلك يعني المنهج والبحث والتدليل، لا يعني شيئًا يُذكر بالنسبة إليه، وغالبًا بالنسبة للمهللين، فكما أشرنا فمرجعية كلامه هو نفسه وكفى.
يحمل الكلام الفارغ صفات الكسل، فمنتجه لا يبذل أي مجهود فيه، لا من جهة البحث والتدليل ولا من جهة المنهج
وفي اعتقادي لا تكمن المشكلة هنا في الكتابة، ومنصات الكتابة والتدوين الإلكتروني التي فتحت أبوابها على مصارعها لمن هبّ ودبّ دون سياسة انتقاء، وإنما تكمن بشكل كبير في الجرأة على الحق، واليقينية المطلقة في مثل هذه الممارسات، التي تعطي انطباعًا زائفًا بالكمال المعرفي بين منتج الكلام الفارغ والمتعاطي معه بالتهليل أو النقد، دون مراجعة لأصل الموضوع، والتي أيضًا تعطي نفس الانطباع في حالات دفق المشاعر المشوهة من ناحية، والملفقة من أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: عن الكتابة والامتثال والجوائز
فالكتابة في المجمل حمّالة أوجه، فأن تكتب للبوح ليس كأن تكتب لتُعلّم الآخرين وجهات نظرك كأن لا شية فيها، وأن تكتب للعلم والمعرفة بالعلم والمعرفة، ليس كأن ينشر آخر يقينه المشوه على الملأ باعتباره غاية المراد من رب العباد.
في النهاية البوح كله شجون، إما عن تساؤلات يحيطها الشك، أو عن يقين عارفٍ كُشف له ما لم يطيقه احتماله! والكتابة للعلم والمعرفة لا تقف عند حدود التجربة الشخصية جدًا، وإنما قد يدفع بها البحث المستمر والطرح الشاك دائمًا، أو الفرضية النظرية المدلل عليها بالمعلومة الثابتة، وكلاهما لا يرتبطان بآرائنا في الحياة ووجهات نظرنا في شؤون الخلق والكون.
اقرأ/ي أيضًا: