تستمر في العاصمة الإيرانية طهران هذه الأيام تبعات ومفاعيل حملة الحرس الثوري الإيراني وعناصر وأنصار مليشيا الباسيج بتوجيه ومتابعة شخصية من رئيس الجهاز محمد رضا نقدي ضد استخدام الصحون اللاقطة والتجهيزات التلفزيونية التي تسمح بالتقاط قنوات فضائية أجنبية وعربية وغيرها.
لم يخرج القرار عن المألوف فيما يتعلق بمنهجية النظام الإيراني في التعامل مع مسألة الحريات بمستوييها الفردي والعام، كما أن هذه ليست أولى حملات النظام ضد هذا المخلوق الغربي العجيب الذي تقتنيه 80% من الأسر الإيرانية على الرغم من تجريمه قانونًا، أي لاقط قنوات التلفزة الفضائية، مكمن الخطر على الروحية التي يبتغي الملالي نشاة أجيال من الإيرانيين وفقها. وهي للمصادفة ليست مجرد ذهنية تحريم وتخويف وترهيب كتلك التي لدى عديد من المتفوهين تحت عنوان شيخ أو زعيم ديني ما أو فقيه، هذا أنها ترتبط، بل تنبثق عن سياسات الدولة الرسمية بشكل مركزي.
ما تتشاركه الدكتاتوريات أكثر قداسة لديها مما تختلف حوله، بمبرر استنساخ الممارسات من بعضها بعضًا فيما يختص بمصفوفة قمع الداخل
فنقدي وجهاز الباسيج ليسوا أتباع مدرسة دينية أو طريقة صوفية، بل هم أدوات أمنية رسمية مسخرة لخدمة مصلحة النظام، وليس أدل من مباركة مجلس تشخيص مصلحة النظام لأفعالهم وحملاتهم على مدى التلاصق لجهاز الباسيج مع المستويات العليا لصنع القرار في نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، هذا دون التعرض لجرائم الجهاز الإقليمية في كل من العراق واليمن وسوريا.
اقرأ/ي أيضًا: اقتحام الجماهير للسياسة.. أفكار عن الإسلام والسلطة
لم يأت مشهد مباغتة المنازل وسطوح البنايات في أحياء طهران جديدًا على الإيرانيين الذين يختبرون إعادة إنتاج أساليب القمع والتنكيل المؤسسي الرسمي بنسختها "الثورية الإسلامية" منذ 1979 وانقلاب الخميني على كل القطاعات من خارج حزبه التي أسقطت الشاه محمد رضا بهلوي ونظامه وخلقت اللحظة التاريخية التي اغتنمها الإمام من أجل الوصول إلى السلطة، لكن إلى السلطة كما يراها هو، سلطة رجل الدين المطلقة من المخابرات حتى مصنع الترانزستور.
ليس فقط مشهد المباغتة الأمنية لمليشيات الحرس الثوري هو ما عرفه واختبره المواطن الإيراني، فحكاية الصحون اللاقطة والنظم تعود بالمواطن الإيراني إلى حقبة التسعينيات التي شهدت أكبر الحروب الإيرانية على اللواقط الفضائية، بل ونجم فيها تشريع منع استعمال هذه التجهيزات بقانون كامل يختص بحجب البث الفضائي عن الإيرانيين. في ذات المرحلة التي شهدت تحطيمًا ومنعًا لذات الأجهزة في أقطار أخرى من المنطقة، سوريا حافظ الأسد، عراق صدام حسين، شهدت مدن هذين البلدين تنكيلات عدة بمن يقتنون الصحون اللاقطة، حتى في مخابئ سرية، حين تتكمن أذرع الأمن من الوصول إليها. ما يقود إلى بذور استنتاج طفيف يشير إلى أن ما تتشاركه الدكتاتوريات أكثر قداسة لديها مما تختلف حوله، بمبرر استنساخ الممارسات من بعضها بعضًا فيما يختص بمصفوفة قمع الداخل، على الرغم من أن هذه الدكتاتوريات نفسها قد تكون متناحرة في حرب على الجبهة يذهب ضحاياها من أولئك الذين يُمارس عليهم طقس التحريم باسم المصلحة العليا أو الأخلاق أو حتى الدين نفسه، إن لم يكن بتهمة العمالة للغرب.
قد يقال إن الأمر برمته ليس إلا توقفًا عند تفصيل، تمامًا كتفصيل منع المرأة من حضور مباريات كرة القدم وغيرها من الرياضات أو تفصيل سجن ومنع عشرات المخرجين السينمائيين من العمل، وقد يقال أيضًا إن الأمر إنما تفرضه الظروف الطارئة التي يعيشها البلد، في هذه المقولة، التي تتصدر خطاب الممانعة دومًا عند الإتيان على ذكر أي شيء يتعلق بإيران حتى لو كان على صلة بالحريات الشخصية والحقوق المدنية للإيرانيين أنفسهم، يغيب عن مدافع هذا الدفاع في حال كان التصدي للحصار الغربي وغزوه الثقافي والمعرفي عبر تحطيم الصحون اللاقطة أو تحطيم أي شيء آخر إلى جانب الإرادة الحرة للإيرانيين ضرورة، فإن الضرورة الأولى لتحويل المليارات المفرج عنها من أموال النفط الإيراني بعد الاتفاق النووي إلى متسحقيها من الإيرانيين المتعطشين لعمل أفضل وطبابة أصلح ومدارس أجود من تلك التي لديهم عوضًا عن تحويلها إلى صفقات الطيران مع بوينغ الأمريكية أو أرصدة الفساد التي لا يخلو يوم في الرزنامة الفارسية من الحديث حولها، آخرها محاكمة "المتقشف" الرئيس السابق أحمدي نجاد، ولا تخلو فرصة للتنديد العلني بها سواء في الاحتجاجات المتواضعة التي تجهد لترى النور في الداخل أو ما يقوم به معارضو النظام من منافيهم البعيدة والقريبة، خاصة أن من دفع فاتورة سنوات الحصار ما هو إلا الإيراني عينه، في اقتصاده وطبابته وتعليم أطفاله وإمكانيات ما يستطيع توفيره على مائدة العشاء، وقد يكون هذا الإيراني للمناسبة من محبي متابعة البث الفضائي مع العائلة أثناء العشاء أو بعده، فالمسألة إن حصرت بالنقاش حول الصحون اللاقطة تبقى في وجه التسفيه وإمكانية حشرها مع التفاصيل، لكن إن حضرت الإرادة والفعل ورمزيتهما لا يبقى متسع لوضع هذه الحملة إلا فوق أهرام الجماجم التي أنتجها نظام الملالي منذ إطباقه السيطرة والتحكم بتفاصيل الحياة في إيران، وليكن الاستغناء عن البث الفضائي خيارًا للممانع الواقف مع النظام في إيران ظالمًا أو ظالمًا من باب تجنيب الذات للغزو الثقافي الذي يخافون على وعي الجماهير من أثره مع كامل التمنيات برحلة موفقة وراء باسيج الملالي إلى ظلمة العصور التي لم تأت بعد.
اقرأ/ي أيضًا: