ليف نيكولايافيتش تولستوي (1828-1910)، أو ليو تولستوي، كما اختزلهُ صاحبه الذي سيعيش حياةً مليئةً بالتناقضات والحيرة، لحظة اختياره لنمط حياته والطريق التي سوف يسلكها بما تبقّى منها.
سجّل ليو تولستوي في يومياته كل شيء حرفيًا عنه، تفاصيل حياته اليومية، وأفكاره، واضطراباته، الحرب والزواج ورسائله ومقالاته
ولادته عند عائلة أرستقراطية لن يجعل منه بالضرورة إقطاعيًا مدى الحياة. ودراسته القانون، وقراءته روسو في سنّ مبكّرة، سيدفعانه أيضًا لتغيير نمط تفكيره كخطوةٍ أولى في مشوار تغيير نمط حياته وعيشه الذي لن يكون سهلًا.
اقرأ/ي أيضًا: تولستوي يحطّ رحاله في الجزائر
سيعيش مؤلّف "آنا كارنينا" تمزّقاتٍ عديدة، بين ما نشأ عليه، وما يريد أن يكون عليه، وبين البقاء إقطاعيًا، ورغبته في عيش حياة المزارعين الذي يعملون عنده. لكنّه في النهاية سوف ينتصر في حربه هذه التي خاضها ضدّ نفسه، حيث سيتخلّى عن مزرعته لفقراء قريته، ويسكن منزلًا ريفيًا يمنحه النقاء والسكينة.
دون العبور عبر هذه التفاصيل، لا يُمكن استعادة سيرة ليو تولستوي "مرآة الثورة الروسية" كما وصفهُ فلاديمير لينين يومًا. معارضته الشديدة للكنيسة الأرثوذكسية التي ستُعلن عليه الحرب فيما بعد، وتكفّرهُ وتحرمه من رعايتها، بالإضافة إلى خلعه لثوب الإقطاع ومغادرته حياة الترف والانشغال بسؤال: ما الهدف من حياة الإنسان؟ ستجعل الكتابة بالنسبة له حبل نجاةٍ من أزماته وقلقه وعذاب ضميره، وطريقةً للخلاص من التناقضات التي يعشيها بين رغباته وواقعه.
هكذا، سينكبّ مؤلّف "الحرب والسلم"، على كتابة يومياته، بموازاة كتابته لرواياته وقصصه، مقدّمًا بذلك للقارئ مُفتاحًا وحيدًا للتعرّف إليه عن كثب.
6 أجزاء تروي تولستوي
وتزامنًا مع ذكرى ميلاده، أطلقت دار "آفاق" مشروعًا ضخمًا بعنوان "يوميات تولستوي"، أتاحت فيه الدار المصرية يوميات الكاتب الروسيّ، ولأوّل مرّة، باللغة العربية، ووضعتها في متناول القارئ العربيّ من خلال ستة أجزاء متتالية، صدر منها حتّى الآن ثلاثة أجزاء بترجمة المصري يوسف نبيل.
اشتغل نبيل على ترجمة الأجزاء الثلاثة من يوميات تولستوي، انطلاقًا من قناعته بأنّ شهرة الكاتب وأهميّته لا تتأسّسان على أدبه فقط، بل على أفكاره وفلسفته وأدواره الاجتماعية، مُعتبرًا أنّ ترجمته لليوميات عبارة عن مواصلة للرحلة التي بدأها منذ سنوات مع مؤلّفات صاحب "الحاج مراد"، حيث سبق وأن نقل له إلى العربية "السند المزيّف" و"طريق الحياة" و"في الدين والعقل والفلسفة" و"في العلم والأخلاق والسياسة".
كل شيء حرفيًا عن تولستوي
سجّل ليو تولستوي في يومياته هذه تفاصيل حياته اليومية، ومناقشته للأفكار التي يفكّر فيها، أو تلك التي قرأها في كتابٍ ما منذ التاسعة من عمره وحتّى الأشهر القليلة الأخيرة من حياته.
سيحكي تولستوي، للقارئ، في يومايته، عن بداية اضطّراباته الأخلاقية والنفسية والفلسفية، والتحاقه بالجيش وخوضه الحرب، وبعد ذلك البدء في البحث عن زوجة، وزواجه من صوفيا، ومشاكلهما، واضطّراباتها وهلوساتها التي عاشتها في الفترة الأخيرة من حياته.
وسيتيح للقارئ كذلك الاطّلاع على مراسلاته مع مهاتما غاندي وجورج برنارد شو، وقراءة مقالاته عن وليام شكسبير، وتلك التي يهاجم فيها الحكومة والقيصر أيضًا.
مقطع من اليوميات
نورد هنا مقطعًا من يوميات أحد أبرز كتاب القرن العشرين، تولستوي:
"أعدت قراءة صفحات اليوميات التي أفحص نفسي فيها، وأبحث عن طرق ووسائل لتحسين ذاتي. لقد أقبلت منذ البداية على أكثر الوسائل منطقية وعلمية، لكنّها أقل الوسائل إمكانًا.
لقد أدركت بالعقل أفضل وأنفع الفضائل التي يمكن اكتسابها، وأدركت بعد ذلك أنّ الفضيلة هي تحديدًا غياب الرذيلة، فكي أكون إنسانًا فاضلًا لا بد وأن أصحح من عيوبي، لكن عيوبي كانت كثيرة جدًا، وإمكانية الكمال الروحي متاحة فقط للكائن الروحي، لكن الإنسان يضم بين طياته كيانين وإرادتين مختلفتين.
حينها أدركت أنّه لا بدّ من التدرّج في عملية الإصلاح. لكن ذلك غير ممكن، فلكي يُعَدّ العقل لذلك الوضع الذي يمكن فيه للإنسان أن يُحسّن فيها ذاته بحيث يحدث تواؤم بين إرادة الجسد وإرادة الروح؛ فلا بدّ من وسائل معينة. وقد اختبرت مصادفة إحدى تلك الوسائل، سواءً كان نيل الفضيلة فيها صعب أو سهل.
إنّ الإنسان يسعى بشكل عام صوب الحياة الروحية، وكي يحقق أهدافه الروحية، لا بدّ له من أن يصل لذلك الوضع الذي لا يتناقض فيه إشباع الاحتياجات الجسدية مع الروحية، سواءً كان ذلك متعلقًا بحب الذات أو المرأة أو الطبيعة أو الفن أو الشعر.
تولستوي: كي يحقق الإنسان أهدافه الروحية، لا بد له أن يصل للوضع الذي لا يتناقض فيه إشباع الاحتياجات الجسدية مع الروحية
هذه هي إذًا قاعدتي الجديدة، بالإضافة إلى ما وضعته سابقًا: أن أكون حكيمًا ونشيطًا ومتواضعًا. أكون نشيطًا دائمًا فيما يتعلّق بالحركة صوب الهدف الروحي، وأفكر في كلّ ما يساعدني على السعي صوب الهدف الروحي. وأكون متواضعًا بحيث لا يتحول سرور الرضى عن النفس إلى حب المديح".
اقرأ/ي أيضًا:
أعمال المفكر العراقي الراحل كامل الشياع في المتن من جديد
لودميلا بيتروشيفسكايا في "صبيّة من متروبول".. معاودة رسم لطرقنا الشاقة