أنا هنا، عابرٌ مئات الكيلومترات، قادمًا من شرق المغرب نحو شماله. تأخذني على حين ذكرى ما استرجعته من صور، لمدن تطوان وطنجة، عبر الخبز الحافي. وأفكر: قد يصدق الأدب ويكذب الواقع؟!
قدري هنا أن ألهث وراء ظلِّ شُكري، بين المكان والزمان المحجوز في ألفة الجدران، على ملامح الناس، في لكنتهم الغريبة
أتوسط الطريق ويتوسط بي، عبرَ جبال الريِّف، على كل حجر هنا أثر جوعٍ أحفوريّ، أرض صلبة تحملني، وغابات تنبثق بعناد من بين الجِرافِ الصَّخرية، والريح الباردة تردد صدى ابن زياد: "البحر على يمينكم، والموت يساركم". على حين ذكرى ، بذات الشكل، تأخذني الصُّور وأفكرُ: ها هنا كان يبكي محمد شُكري خبزه! قد يكذب الأدب ويصدق واقعه.
اقرأ/ي أيضًا: أولاد الطين.. مهمشّو السرد الروائي
وصولًا إلى تطوان. حيرة الطريق لازالت تهديني دوخة عرضية؛ أي الجدلين يقيم محمد شكري داخل كتاباته. الشائع كونه عرّى الواقع المغربي البائس وقتها، والشائع من تكسيره التابوهات، لكن هل تقف عظمة الكاتب على هذا الحدِّ؟
أبحث عن أقرب مكتبة لأبتاع نصوصه المهملة بين رفوف مكتبتي المنزلية: الخبز الحافي، الشطَّار، وردٌ ورماد. وأنطلق. قدري هنا أن ألهث وراء ظلِّ شُكري، بين المكان والزمان المحجوز في ألفة الجدران، على ملامح الناس، في لكنتهم الغريبة. مدفوعًا باحتمالية إلتقاء خطواتي بخطواته، داخل الأزقة الموحلة، لأعرف قصته بحواسي الخمس.
أرضُ الخبز الحافي
تبدأ القصة عند فتىً يبكي الجوع ويبكي أخاه الموعود بموتٍ يترصده، في قبر منسي بلا شاهد، بلا رياحين على صفحته، كلُّ ما كان يسعد الطفل الصغير والفقير. إنها "جمالية الضنك"، هكذا أفكر، وأحس بالحرج من قولٍ كهذا، وأستمرُّ بالمشي غريبًا، لا أعرف أسماء الأماكن، غير أني أعرف فحوى السُّطور. هي ساعة العبور بين مستويين؛ فوقي وتحتي، والدمج بينهما في إحساس واحدٍ.
أعرف أني اخترت الطريق الخطأ. وعلى هذا المنوال أخذني الشَّك: هل محمد شكري كتَب من الذَّاكرة، لا من الواقع؟. لا يهم! أبدّل الغاية، وللحظة أعيد الحكاية إلى أرضها.
بين المستويين، أمرّ بدرب موحل، من باب التوت على امتداد البصر دربُ الطرانكات، زحام وضجة وحوانيت ومنتوجات طازجة للبيع، ورائحة نفَّاذة لأمعاء السمك الملقاة في زاوية. المارَّة قلائل كلما تعمقت دخولًا بين الأزقة، وعجوز تخفض رأسها حين تجدني موجها كاميرا هاتفي المحمول إلى زاوية مفتوحة من الزقاق؛ تعلمُ أنِّي أصور مساء الحي الساكن، ولا ترغب في أن تكون جزءًا من أي قصة.
"ترى كم هو بائس حي الطرانكات؟". يندهني شكري من الجدران الرطبة. إحجام العجوز رافقه عندي إحجامٌ عن سؤال الناس كذلك، وأكتفي بشكري مرشدًا، وهو لم يؤثر إشارة بكلامه.
صادف زيارتي لهذه الدروب انسياب ظلِّ الليل عليها سريعًا، وفي الليل تنعدم الظلال، حتى شكري يصمت، ربما عاد لبغيّ كانت تنظره مهدهدة أهداب زهرتها اللاحمة. ربما عاد إليها وأهمل ضيفه.
وحلُ الشارع، وحلُ الواقع أدب شكري. وأخلصُ إلى أنّ الخبز الحافي يجمع المستويين في نص، بتناقض جدلي مؤسس: دموية واقع النص، وقاحته، سفوره، وجماليته الأدبية.
عودة متخيلة إلى المكان.. بحثًا عن مفتاح النص
قلتُ، وقد أخطأت بادئًا في اختيار الطريق، وقلتُ أن شكري كتب عن ذاكرة لا عن واقع. رنَّت المقولتان في فكري الليلة كلها، أقلب صفحات الكتب غير مهتدٍ إلى سبيل. والمعضلة أنّ ما بين يديّ من كلمات تشظي صاحبها، وما بين يدي من نص تكثيف ذاكرة، وما عشته ذات المساء، على مسافة من الزمن، هو واقع متشظي.
"أحياناً أفكر في أن الإبداع يصير لعبة صادقة، وحياة أصحابها صدقًا كاذبًا"، هكذا يخاطبني شكري من مراسلاته لمحمد برَّادة التي جمعت في "وردٍ ورماد". قول كهذا في شاعريته البدائية و بداهته، غير ذي قدرة على انتشالي من همِّ موضعة النص/التجربة، يشتطرني فيه ماردان: البنيويون القائلون باللا نص خارج الثقافة، والمابعديون القائلون باللا شيء خارج النص.
أنزوي لمُسَوَّدتي الداخلية، وأرتب الأفكار، وأسترجع كل فصول جولتي الصباحية لأصحح منها: فكرة الكلية في الواقع محض افتراء خيالي، والكاتب عندما يلد نصه فإنّه ليس بصدد التعبير عن الواقع، الواقع الذي في ذاته تناقضات. إذن هي عمليات عسيرة الهضم يجترُّها عقل الكاتب بتلذذ أثناء الفعل الإبداعي؛ يعيش واقعًا موضوعيًا مفككًا، يجمعه في داخله المفكك، ويبدعه في شكل مترابط.
يقول جورج لوكاش، إن "الممارسة الأدبية لكل واقعي حقيقي تبين أهمية الترابط الشامل الموضوعي، وأهمية الإحاطة بجميع جوانب الموضوع الضرورية للسيطرة على هذا الترابط".
هنا يمارس شكري الواقعية، يعرف الطبيعة الجدلية بين الظاهر المفكك والمهيّة الكلية، وينتج منها كتاباته. بتعبير مباشر، فإن شكري عاش ما عاش من حياته وبكل مآسيها فوضويًا، وأنتجه في كتاباته مترابطًا، هنا يكمن مفتاح قراءته، بأنه أعاد إنتاج واقعه بشكل لم يخرج عن الفعاليات المحركة لذات الواقع، وهي الجدل.
"طنجة المغروسة في الزمان"
يعود إليَّ بتهمة شهد هو بها على نفسه، تهمة لا تزيد في حياة الصعلوك بؤسها، ولا تنقصه. يعود إلى طنجة، وقد عرفني وعرفته الآن، يكتب شُكري في ذلك: "يا طنجة المغروسة في الزمان الزئبقي. ها أنا ذا أعود لأجوس، كالسائر النائم، عبر الأزقة والذكريات".
رحلتنا تطول، وأنا أحمله على ظهري، من وإلى حي القصبة، حيث نجوس معًا في جحافل المارين كتلًا بشرية غير متجانسة: ضيوفٌ يسكنون، ضيوفٌ عابرون، ضيوفٌ وضيوف وضيوف: "أستقبل تباعًا ضيوفًا لا بحر في مدنهم. مديني ليست لهم إلا الشوارع الإرشاد، والمقاهي والحانات اللقاء، والملاهي والفنادق المواخير". وبأسى يتجرع الغربة كأس شاي بمقهاه المعتاد، مقهى السي موح. وقصة دخولي له تلك قصة أخرى.
وسط الجمع بدرب السوق البرّاني، انفراج قليلٌ بين الجدران يشكل وسعة دائرية، تحيطها المقاهي من كل الجهات، يحتشد فيها ناس من كل الأجناس. صرت أتفرس وجوه المارة بحثًا عن أصحاب البلد، وأحس طيفه يدوِّم حولي، في كل ركن يحدجني بعينيه الناعستين. أي مقهى هو مقهى الرقاصة؟ أسأل الناس: "أتعرفونه؟"، ويجيبون بالسلب، فأكرر السؤال: "أي مقهى كان يجلس فيه شُكري؟"، فيشيرون لي إلى فتحة ضيقة في الجدار.
شباك حديدي أسودُ، يفتح السبيل إلى هوة مظلمة ضيقة الأركان، أعبرها فأجد جالسون على جنباتها ينظرون إليّ باستغراب، وتصفعني رائحة الكيف الطالعة من عشرة "سباسا" (جمع سبسي، وهو غليون تقليدي الصنع) تحيط بي. أتذكر مشهد عراكه هنا، كان عراكًا دمويًا حتمًا. أرى بين قدمي، أحاذر كي لا أطأ بقع دمه على البلاط.
التاريخ يقف هنا. في عمق المكان حائط قصير يفصل مطبخ المقهى عن قاعة الزبائن. أتقدم نحو الشبح الجالس وراءه، وأسأل: سيدي هل أنت مالك المقهى؟ يجيب: "نعم". ويشير إلى لوحة الملكية التي تقر ذلك منذ سنة 1948. أسأله: إذن أنت هو السي موح؟ فتنقبض ملامحه: "لا هو أبي، لماذا تسأل؟"
أخبره أنني جئت باحثًا عن ظل شكري، فيجيبني باقتضاب بأنه كان مجرد زبون متشرد يرتاد مقهاه، وهذا كل ما يعرفه عنه. يعرض عني دون أن يترك لي مجالًا لسؤال آخر. أخرج من هناك راغبًا في تذوق كأس شاي مما يُعد، غير أن صلافة الرجل حالت دوني ودون شهوتي. أسمع همسًا من أحد زوايا المقهى: "إنهم أتعبوه بكثرة السؤال على محمد شكري". أطلق ابتسامة ديبلوماسية مرغمة، فحواها: إنني أتفهم الأمر.
الحكاية تتجسد رجلًا
أخرج من مقهى الرقاصة منفعلًا، ما يوقظني من صدمة ما وقع من تأكيد استنتاج الأمس عن الواقعية: ليس واقع الأدب بجماليته الأدبية. أتحرك خطوتين مغادرًا الزحام، وآخذ صورًا أخيرة للمكان، قبل أن أفطن لرجل جالس بقربي على باب أحد البازارات، أستأذنه: "هل يمكن أن أصور؟". يجيب بذات الإبتسامة السمحة: "الله يا ولدي، صوِّر ما تريد".
أتفطن مجددًا وأنحني على السيد مادًا يدي بالمصافحة، والسؤال: "أتعرف محمد شكري يا عم؟". تنطلق حسرة من بين شفاهه: "آه على محمد شكري، مات وفنيت عظامه". للحظة كنت سأصارحه بأن ظله هو من حملني إلى هنا، غير أني تذكرت وصية الصوفي: "لا تنطق بما تشهده".
صرت أرقبه بعين المتشوق إلى معرفة الأسرار، وهو يفهم ما تقوله العين، قال: "أتانا شكري مُقطعًا (رثَّ الحالة)، لم نكن نحسب وصوله إلى هذه المراتب. أتى أميًا فتعلم، أتى متسخًا فنظف، وكانت له طباع الشوارع، والخبيث منها، فصنع منها ما صنع". ثم قال: "تعال معي"، فتبعته. مشى خطوتين، وأشار إلى غرفة فوق سطح المقهى المذكور آنفًا: "هناك كان يبيت، وكنت أنا من يعطيه مفاتيح تلك الغرفة".
غرفة رثة، تعتلي الطوبة جدرانها، وسقفها معدني. قلت لنفسي: هذا قِدرٌ وليس بغرفة، ونظرت إلى الرجل الذي صار يحرك يديه يمينًا ويسارًا، مشيرًا لي بمعلومات أعرفها كلها تقريبًا، وأسأله: "هل قرأت كتب شكري؟". فأجاب بالسلب، واستدرك: "بل عشتها"!
هنا يكمن مفتاح قراءة شكري؛ بأنه أعاد إنتاج واقعه بشكل لم يخرج عن الفعاليات المحركة لذات الواقع، وهي الجدل
وكأن الرحلة بلغت مبتغاها بهذا الجواب. جئت لاهثًا وراء ظل محمد شكري، الذي حلت ذكرى وفاته الـ15 بالأمس (توفي في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2003) وها أنا أجده. وكأن القصة كانت تحتاج هذا اللقاء الأخير لتصل نهايتها، والمعنى هو لمس الكيفية التي يحوّل بها الواقع أدبًا؛ فها هو ذا ظل محمد شكري وقد وجدته، وها هنا يعيش شكري إلى الأبد.
اقرأ/ي أيضًا:
أدباء مغاربة.. متاهات اللذة الفنية
محفوظات عبدالله حافظ للتراث الشعبي المصري.. هوس الاقتناء ومؤانسة الوحدة