رغم أن القصة القصيرة فنّ خارج دائرة الاهتمام الواسعة بسبب ارتباط القارئ المعاصر بالرواية، ورغم حالها الذي يوصف بأنه في أزمة بسبب الكتابة نفسها أو بسبب النشر، إلا أن الساحة الأدبية العربية شهدت في السنوات الأخيرة ولادة مجموعات قصصية جديدة في مضامينها وأساليبها، ما يجعل كل ما يقال عن القصة كفنّ أمر غير واقعي، من حيث أنه لا يتصل بالمواهب بمقدار ما يتصل بتأزّم التواصل مع الكتابات الجديدة. هذه الوقفة مخصصة لثلاث مجموعات سجلت مفارقتها في مجال السرد القصصي.
1- "معرض الجثث" لحسن بلاسم
"مجموعة متألّقة ومقلقة، ذات مرارة وغاضبة لا تنسى. والقصص تبدو من قطعة لحم ممزّق من تأريخ متقيِّح للبلاد". بهذه الجملة التي حملت معانٍ كثيرة، وصفت جريدة وول ستريت جورنال مجموعة "معرض الجثث" (منشورات المتوسّط، 2015) للكاتب والروائي العراقيّ حسن بلاسم (1973). تُرجمت المجموعة إلى عدّة لغات عالمية، ودأبت دور النشر الكبيرة كـ "بينغوين" وغيرها على إصدار طبعاتها المتلاحقة، لتحتلّ بذلك مكانةً أدبية مميزة عالميًا، قادت مؤلّفها بخطواتٍ ثابتة إلى جائزة "مجلة الإندبندنت" العريقة، ليكون بذلك أوّل كاتب عربيّ يفوز بها.
نقرأ في المجموعة قصصًا تُفيض بالبشاعة والوحشية الكامنة في النفس البشرية؛ إنّها طريقة صاحب "طفل الشيعة المسموم" في وضع الواقع ضمن كتابة مُغايرة تُعرّيه وتعرضه لنا من زوايا مختلفة ومأساوية، لربّما أُهملت في سرديات الآخرين. قصصٌ تجيء متخمة بالعنف بأشكاله المتعدِّدة، والهجرة التي تتحوّل إلى حكاياتٍ غريبة، والجرائم التي جاءت بصورة مختلفة عن صورتها المعروفة، بقصد أن تظلّ، لشدّة غرابتها، محفورةً لأطول فترة زمنية ممكنة في ذهن القارئ الذي لا تنفكّ الدهشة والخوف يرافقانه أثناء القراءة.
نكتشف في "معرض الجثث" قدرة حسن بلاسم وبراعته في كشف مكنونات شخصياته. يتبدّى هذا الأمر واضحًا منذ القصّة الأولى الموسومة بـ"الأرشيف والواقع"، حيث يضعنا صاحب "الله 99: إيميلات مترجم إيميل سيوران" إزاء حكاية كابوسية يرويها مواطن عراقي لموظَّفي محطة استقبال اللاجئين بعد وصل إليها فارًّا من المجموعات الإرهابية التي تعاملت مع كما لو أنّه سلعة. وفي قصّة أخرى جاءت تحت عنوان "شاحنة برلين، نقرأ قصّة مجموعة من اللاجئين العالقين في شاحنة فرّ سائقها وتركهم لمصيرهم البائس الذي يجعل منهم مخلوقات مشوّهة ومُفترسة على يد شابٍّ كان برفقتهم، ويقول بلاسم أنّه: "ما أن دخل الشاب الغابة حتّى أخذ يعدو على أربع، ثمّ تحوّل إلى ذئب رمادي قبل أن يختفي فيها".
2- "نكات للمسلحين" لمازن معروف
يكتب الشاعر والقاص الفلسطينيّ مازن معروف قصص مجموعته "نكات للمسلَّحين" (دار الكوكب، 2015) من زاوية السخرية غير المعلنة، تلك التي تُفسح له حيّزًا واسعًا يتمكّن فيه من التنقّل بين عدّة ثنائيات متضادّة، كالفرح والذعر، القوّة والضعف، الشجاعة والخوف، وأخيرًا الحياة والموت. ويحضر الأخير كجزءٍ من الحرب التي فضّل معروف صاحب "ملاك على حبل غسيل" أن تكون مجرّد خلفية لقصصه تارةً، ومُحرّكًا لأحداثها تارةً أخرى، وذلك كيلا تطغى بحضورها الغليظ على الأحداث، وتُفسد بذلك جوهر القصص.
الغرابة حاضرة في قصص المجموعة المتوّجة بـ"جائزة الملتقى للقصّة القصيرة، 2016. ويمكننا القول إنّها غرابة مُستمدّة من رغبة شخصيات مازن معروف في أن تكون قوية تارةً، أو أن تنجو من هول ما هي فيه تارةً أخرى. وفي بعض القصص، نعثر على هاتين الرغبتين معًا، لا سيما في القصّة الأولى من المجموعة التي ضمّت 10 قصص فرعية تتنازعها الرغبة في القوة والنجاة. فنجد الطفل، الشخصية الرئيسية في القصة التي حملت المجموعة كاملةً عنوانها، أي نكات للمسلّحين؛ يُحاول الحصول على القوة للنجاة من المسلحين الأقوياء الذين اعتادوا ضرب والده الذي بات حديثًا ساخرًا لزملاء الطفل في المدرسة، خصوصًا أن الأخير اعتاد سرد بطولات والده المزيّفة على مسامع أصدقائه.
جرّب الطفل كلّ ما من شأنه أن يجعل والده رجلًا قويًا يخافه المسلّحون. فمثلًا، كان قد عيَّن له حارسًا شخصيًا مفتول العضلات لحمايته، غير أنّ والده الذي بات يرتعد من خياله فرّ هاربًا منه دون عودة. وفي محاولة أخرى، كان قد جرّب تركيب عين زجاجية تجعله مخيفًا بحيث يهرب منه المسلّحون، غير أنّ الطفل فشل في ذلك أيضًا. وعلى هذا المنوال تسير بقية قصص المجموعة، فنجد ماتادور يموت ثلاث مرّات دون أن يخلع عنه زيّ المصارعة. وأيضًا زوجان يُمارسان الجنس في غرفة بنافذة مفتوحة يتلصّص أحد عجائز الحي عليهما من خلالها. وزوجان آخران يُربيان خثرة دم صغيرة على أنّها طفلهما المُجهض.
3- "صانع الحلوى" لأزهر جرجيس
يحرص الكاتب والقاص العراقيّ أزهر جرجيس في مجموعته القصصية الثانية "صانع الحلوى" (منشورات المتوسط، 2017) على منح قصصه نهايات صادمة، لاذعة، وغير متوقّعة بحيث تُباغت القارئ. إذًا، النهاية هي ما يشتغل عليه جرجيس في قصصه الساخرة، قبل أن يتّجه بعد ذلك ليصوغ حكايات تكون ملائمة للنهايات التي يبدو أنّ صاحب "فوق بلاد السواد" كان قد وضعها مسبقًا. وغالبًا ما تجيء الحكاية التي يكتبها أزهر جرجيس متّسقةً بشكلٍ أو بآخر مع النهايات، إن كان ذلك لجهة اللاواقعية والخيال غير المحدود في الأحداث، أو الغرابة التي حرص المؤلّف على ضخّها في الحكاية.
يبدو أنّ أزهر جرجيس يلتقط قصصه دون عناء، وذلك لأنّها مستمدّة من واقع بلاده المأساوي، فنجده في إحدى قصصه الموسومة بـ "حانة المشرق" يكتب عن رجل فقد ظلّه، قبل أن يبدأ الرجل نفسه بسرد أحداث واقعة هجوم مجموعة إرهابية على حانة يديرها عجوزًا يُدعى "رؤوف"، وقتل روّادها، لنكتشف في نهاية القصّة أنّ الرجل الفاقد لظلّه قُتل في ذلك الهجوم، أي أنّ من سرد لنا الحكاية كانت روحه التي لا ظلّ لها. وفي قصّة ثانية، يحكي لنا جرجيس قصّة مواطن عراقي حمل جمجمة والده معه إلى هولندا، حيث بدأ يعدّ هناك للهولنديين حلوى مغمّسة بجمجمة والده.
اقرأ/ي أيضًا: