كنت أتناول شايًا مع نخبة من الأصدقاء، في إحدى المدن، لا داعي لذكرها لأنّ الوضع معمّم، فهزّنا نهر من الأصوات والمعزوفات قادمة من بعيد. سألتُ عن الأمر، فقيل لي إنّه كرنفال عيد الاستقلال "05 جويلية". تركت الطّاولة وخرجت إلى الرّصيف، فالتقطت العلامات والإشارات التّالية:
لم يشهد كرنفال الاحتفال بذكرى استقلال الجزائر ظهور أي صورة لشهيد أو رمزٍ ثوري، وتم الاكتفاء بصورة كبيرة لبوتفليقة
الملاحظة الأولى
كان الكرنفال ثريًّا بالماشين فيه من مختلف الأعمار والولايات. ولفت انتباهي ألا واحدًا منهم كان يحمل قارورة ماء، رغم الحرّ الذي كان يمصّ المكان مصًّا. ما معنى أن تأتي بالمئات لتسخّرهم في كرنفال تقول إنّك تعبّر به عن فرحة الاستقلال، وتتركهم عرضة للعطش في عزّ الصّيف؟ لماذا لم ينظّم الكرنفال ليلًا، حتّى يتمّ تفادي الشّمس؟ ثمّ إنّ اللّيل أصلح أصلًا لهذه الخرجات، على الأقلّ من زاوية الألعاب الضّوئية؟
اقرأ/ي أيضًا: صورة بوتفليقة تنوب عنه في المحافل.. والجزائريون يسخرون من الصدمة
الملاحظة الثّانية
كان كلّ فوج من أفواج الأطفال مسبوقًا بمشرف كهل عليه. وكان صوته في ترديد الشّعارات أعلى وأقوى من أصوات الأطفال، الذين كان في كلّ مرّة يصبّ عليهم نظرة حارقة حثًّا لهم على إبداء الحماس برفع أصواتهم.
الملاحظة الثّالثة
لم تكن ثمّة صورة لشهيد أو رمز ثوريّ في الكرنفال، الذي تجاوز طوله كيلومترين، ما عدا صورًا مكبّرة للرّئيس بوتفليقة، كان يحملها أطفال يسهون عنها، فيتدخل كهل ما لإنقاذها من السّقوط، وتوبيخهم على سهوهم عنها.
لقد بتنا نعيش زمنًا جزائريًا يُسخّر فيه من يحمي صورة الرّئيس من السّقوط، لأنها باتت تُقدّم على أنّها الرّئيس نفسه! علمًا بأن هؤلاء الأطفال لم يعرفوا رئيسًا سواه، فقد ولدوا جميعًا بعد أدائه اليمين الدّستوريّة الأولى عام 1999. كان تعب السّاهرين على صورة الرّئيس باديًا، لأن سهو حامليها من الأطفال كان متكرّرًا.
الملاحظة الرّابعة
قلّة من المواطنين انخرطت في الكرنفال أو وقفت في الأرصفة تفاعلًا معه. فقد كان مفصولًا عن حراك الشّارع. باستثناء أصحاب السيّارات، الذين اضطرّوا إلى التوقّف، لهيمنته على الطّريق.
لقد بتنا نعيش زمنًا جزائريًا يُسخّر فيه من يحمي صورة الرئيس من السقوط، لأنها باتت تقدم على أنها الرئيس نفسه!
ما معنى أن تفشل الحكومة والمنظومات التّابعة لها، بعد نصف قرن من الاستقلال، في تصميم احتفالات أنيقة تقوم على الإبداع لا على الاحتشاد، فلا تكون ثمّة هوّة بين المواطنين ومنفّذيها، من غير أن ترتبط في الأذهان بقطع الطّرقات؟
اقرأ/ي أيضًا: صفحة الجيل التاريخي في الجزائر تطوى
الملاحظة الخامسة
كان حماس الكرنفال يعلو كلّما ظهر مسؤول من المسؤولين، ويخفت تمامًا كلما اختفى. ما عدا صوتًا لأحدهم، كان يثير ضحك الدّاخلين في الكرنفال والخارجين عنه (سمّاه الواقفون على الأرصفة "الحركي" وهو الاسم الذي كان يُطلق على عميل الاحتلال. فهل انتفى الفرق بين نظام الاحتلال ونظام الاستقلال في المخيال الشّعبي الجزائري؟) ممّا يعني أنّ حماس الكرنفال كان مرتبطًا بالمسؤول لا بالوطن.
الملاحظة السّادسة
كان الكرنفال ذكوريًا بامتياز. ما عدا بنات صغيرات كن يظهرن من حين لآخر. أما النساء المشرفات على تسيير الأفواج، فقد كنّ نادرات بالمقارنة مع المشرفين من الرّجال. فهل باتت المرأة الجزائرية أكثر انسحابًا من كرنفال السّلطة بالمقارنة مع الرّجل، رغم ما يُعدّ امتيازات سياسية وحقوقية محققة في السّنوات الأخيرة؟
الملاحظة السّابعة
كان الكرنفال خليطًا من الفرق الموسيقية التّقليدية والعصرية. وقد خلى تمامًا من شباب الهيب هوب وأصحاب ما يمكن تسميتها بموسيقى الرّفض مثل الرّاب. ليس تهميشًا من السّلطة لهم، فقد باتت تخصّص لهم مهرجانات وطنية ومحلية وتسمح بمرورهم في تلفزيوناتها مؤخرًا، بل كان موقفًا منهم إزّاء منطق القطيع.
الملاحظة الثّامنة
كان قطاع واسع من الأطفال المشاركين في الكرنفال إمّا يلبسون أحذية مهترئة، وإما صنادل بلاستيكية، بما يشير إلى أنّ الوضع الاجتماعيّ للشّارع الجزائري بدأ يتراجع بعد سنتين من سقوط أسعار النّفط وفرض سياسة التّقشّف. في السابق، كان الأطفال المسخّرون في الاستقبالات الرّسمية يُنتقون من أبناء المسؤولين أو العائلات الثّرية، فيظهرون في حلّة بهية. أمّا اليوم، فقد باتوا يُنتقون من أبناء الشّعب البسيط، في إشارة إلى أن المستقبل الجزائري لن يبقى فيه إلا من عجز عن الهروب.
لقد أصبح الطفل الذي استقبل المسؤولين بحذاء أنيق، قبل سنوات، متورّطًا في ملفّات الفساد (كمال البوشي مهرّب سبعة قناطير من الكوكايين نموذجًا)، بما كان سببًا في هذه الأرجل الحافية. أرجل الأطفال تفضح رؤوس المرحلة.
تشير الملاحظات على كرنفال الاحتفال بعيد الاستقلال، إلى الهوة بين ما هو شعبي وما هو حكومي في الفضاء الجزائري
لا شكّ في أنّ هناك ملاحظات كثيرة أخرى يمكن رصدها في الكرنفال. وهي كلّها، مع ما تمّ ذكره، تشير إلى هوّة بين ما هو شعبي وما هو حكومي في الفضاء الجزائري، وإلى أنّ هناك تقصير واضح في ابتكار أساليب جديدة في الاحتفال بعيد الاستقلال، الذي يفترض أنّه يأتي في صدارة الأعياد الوطنية. فهل ستحتفل فرنسا بالرّوح والأسلوب نفسيهما بعيدها الوطني يوم 14 جويلية (تموز/يوليو)؟
اقرأ/ي أيضًا: