منذ 20 عامًا يتنقل سيدي عزوز، بين المدن الفرنسية. يعرف الرجل الخمسيني، أن مهنته لا تزال مرغوبة. فهو منذ عمر العاشرة كان يعمل مع والده الحاج حميد، ويرافقه إلى أعراس المغاربة في ضواحي باريس. حينها لم يكن سوى صبي يحفظ غيبًا أغاني الأجداد المرافقة لزف العروس، والتي كانت جدته مليكة تعيدها على مسامعه. وورث سيدي المهنة من دون تكلف. وحاول الحفاظ عليها، من خلال تأسيسه فرقًا غنائية وراقصة تلبي حاجات المهاجرين من أبناء المغرب العربي، وحتى العرب الآتين من فلسطين ولبنان والأردن. فبعض العائلات العربية تحافظ على شيء من تراثها. إذ تلبي فرقته طلبات الأعراس بين باريس وتولوز وليل ونيس وطبعًا مارسيليا، حيث غالبية المهاجرين من المغرب.
تنتشر الزفة المغربية في فرنسا بين العرب وتحافظ بوجودها على إرث يتناقله المهاجرون
ويتطور سوق الـ"زفة" في فرنسا، على الرغم من تغيره. فهو مع الجيل الأول من المغاربة والجزائريين والتوانسة، كان مختلفًا. إذ كان هؤلاء يتعاملون مع الزفة بشيء من العفوية، وبكثير من التقليد. فهي تتماشى مع تراث الأعراس، بخصوصيتها وتفاصيلها الدقيقة لكل بلد. فالجيل الأول الذي أورث الجيل الثاني، من المهاجرين "مقاليد الزفاف"، لم ينس الحفاظ على تفاصيل العرس المغربي، من توالي لياليه وتنوع فساتين عروسه والحناء وتواجد "النكافة" وهي المرأة التي تساعد العروس على اختيار الإكسسوارات والفساتين، إضافة إلى الحلوى الموزعة والمأكولات اليدوية.
وتبقى الزفة، الأكثر صمودًا بين تفاصيل العرس المغربي، الذي لم يعد الأبناء اليوم يستطيعون تدبر تكاليفه وإرهاقه. لا سيما أن العيش في فرنسا له مسؤولياته الاقتصادية والبيوت قد لا تكون كافية على تلبية فكرة هذه الأعراس المكررة على أربعة أيام. لكن لو اتجه كثيرون نحو إقامة حفل بسيط، إلا أن بعضهم، يستعين فقط بالزفة أثناء خروجه من مبنى البلدية وتوقيعه عقد الزواج قانونيًا.
اقرأ/ي أيضًا: حفلات للطلاق عند صحراويات المغرب!
وتثير ضجة "الزفة" استغرابًا، سريعًا ما اعتاده الفرنسيون. فهم على تماس يومي بالثقافة العربية، ويعرف كثيرون منهم منذ أيام الاستعمار، هذه التقاليد والأعراف، ونقل بعضهم إياها إلى الأوساط الفرنسية، ولو بحدود دنيا. إلا أن هذا الاستغراب، يقابله أيضًا شعور بالفرح. إذ تضفي الزفة جوًا ابتهاجيًا يتشارك فيه المارة مع أهل العروسين فرحتهم.
تقول آن مارغان إنها تحب رؤية الناس كيف تفرح، موضحة، لدي شغف في معرفة هذا العالم، وأعتقد أن العرب وحدهم قادرون على خلق هذه الحالة في الشارع، متخففين من الشعور بالحرج. "إنهم على طبيعتهم، يريدون التعبير عن أفراحهم بشكل معلن، ويشاركوننا بلطافة هذه الاحتفاليات. مرة واحدة زرت عرسًا مغربيًا حين كنت في المغرب، لكني أبتهج كلما وجدت أمام بلدية تولوز هذا الكم من الناس وهم يهللون ويزغردون ويرقصون على أغاني تراثهم".
هذه الحالة تتكرر. فلم يعد الأبناء يذهبون إلى المغرب لإقامة أعراسهم. صار كل شيء متاح هنا. فليس لدى أكثرهم أقارب في بلداتهم الجبلية أو في المحافظات البعيدة. صارت الحياة الفرنسية تفرض الاستعداد للزواج ضمن المعقول. إلا أن هذا لا يمنع وجود بعض العادات من أعراس البلد الأم. فالنسوة المغاربة يحافظن على سهرة خاصة مع العروس، حيث تتواجدن في بيتها ويلبسن الفساتين الفارعة ويرقصن على الأغاني ثم يبدأن بالحناء الشعبي المعروف.
يشارك الفرنسيون بهجة أهل العروسين في الرقص على أغاني الزفة وموسيقاها
يقول سيدي عزوز لـ"ألترا صوت"، إن الزفة هي من التقاليد التي ما زالت باقية، وتطورت مع الأيام. فبعض العائلات المغربية تقيم أعراسها في صالات الفنادق الفخمة، فنصير نرتدي الزي المغربي الأكثر اشتغالًا في الخياطة، والمطرز بجودة عالية. "لكل عرس قرص"، يضيف وهو يبتسم، "العائلات المتوسطة في فرنسا تحب الزفة العادية، وهناك عائلات غنية تحب الزفة المبالغ فيها. كل حسب جيبته". ويشير عزوز، إلى أن الزفة لم تعد فقط ضمن حدود المغاربة أنفسهم. "العرب صاروا يستعينون بنا. بعضهم يعرفون أننا لدينا تاريخ في هذا المجال، ويحبون زفاتنا. إلا أنهم يطلبون منا وضع أغانٍ من تراثهم ومنطقتهم. صرنا نستعين بأغانٍ حديثة لبعض المغنين اللبنانيين، فهي لهجة مفهومة لدى الجميع".
وعلى الرغم من اقتصار الزفة على أقل من ساعة في مزاولة عملها، إلا أن هذا التقليد يتواصل على زمن طويل، حيث لم ينس المغاربة يومًا إرثهم وعاداتهم المحتفلة بالحياة والفرح، وهو ما يعكس على الدوام، صورة غير نمطية لما يريد الإعلام الفرنسي من ترويجه للعائلات المغربية، حيث يسلط الضوء على حالات فردية، يعميها الموت، فيما "الزفة" تصدح في يوميات المهاجرين... بين فرح وغصة إلى بلادهم الأم.
اقرأ/ي أيضًا: