علي عبد الرءوف معماري وناقد وأكاديمي مصري تتوزع اهتماماته البحثية على مجموعة واسعة من القضايا والمسائل المعمارية والعمرانية، منها العمارة في مدن الخليج المعاصرة، ومدن الربيع العربي وفضاءاته العامة، وغيرها.
يعمل عبد الرءوف أستاذًا للعمارة والتخطيط العمراني، ومستشارًا في إدارة التخطيط العمراني في وزارة البلدية القطرية. صدرت له عدّة مؤلفات منها: "النقد المعماري ودوره في تطوير العمران المعاصر"، و"مدونات معمارية عمرانية"، و"مدن العرب في رواياتهم"، و"من مكة إلى لاس فيجاس: أطروحات نقدية في العمارة والقداسة"، و"شعب وميدان ومدينة: العمران والثورة والمجتمع"، و"عمارة وعمران ومدينة ما بعد جائحة كورونا".
هنا حوار معه.
- لنبدأ بالسؤال عن ظروف لقائك، وبداية اهتماماتك، بالعمارة والعمران وما يرتبط بهما. هلّا تكرمت وحدثتنا عنها؟
علاقتي بالعمارة والعمران بدأت منذ طفولتي ثم مراهقتي، إذ بدأت حينها أهتم بالعلاقة بين الإنسان والمكان، كيف يتصرف الإنسان في المكان، وكيف يحتويه المكان؟ ثم سألت من حولي وعلمت أن من يمتهن مهنة العمارة، يملك القدرة على تصميم الأماكن والفضاءات المختلفة من أجل احتياجات الفرد والمجتمع. فدرست العمارة في "جامعة القاهرة"، ثم تم ترشيحي للعمل كمعيد وباحث، تلاها حصولي على درجة الماجستير، ثم سفري لأمريكا للبدء في دراسات بحث الدكتوراة.
والآن أنا اقترب من رحلة مدتها أربعون عامًا من التعلّم والبحث والممارسة والكتابة عن عوالم العمارة والعمران والمدينة والإنسان والمكان.
- "عمارة وعمران ومدينة ما بعد جائحة كورونا" هو عنوان كتابك الأخير الذي يستدعي تساؤلات عديدة منها: كيف ارتبط الوباء بقضايا مثل العمارة والعمران والعدالة الاجتماعية؟ ولماذا دفعت الجائحة المتخصصين بالعمارة والعمران إلى إعادة النظر في شكل المدينة وطرق بنائها؟ وإلى أي حد تساهم الجائحة في رسم مستقبل المدينة؟
إن العديد من الإشارات والتحولات تجعلنا نبلور رأيًا متماسكًا جوهره أن كورونا بالفعل يستحق المديح، إذ قدّم لنا حقبة مفعمة بإيجابيات التساؤل والتأمل والتفكر في منطق علاقتنا بالحياة وبالعمران وبالمدينة وبالبيئة. والأكثر أهمية علاقتانا ببعض كمجتمع إنساني متحضر وعادل.
علي عبد الرءوف: أثبتت الدراسات الإحصائية أن الكثير من الدول العربية لا تعاني عجزًا كميًا في المساكن، وإنما في العدالة والالتزام بأن المسكن حق للمواطن
لقد بلور لنا فيروس كورونا حقيقة لم يكن غيره ليعلمنا إياها: معنى وقيمة الأولويات. لقد استوعبنا أن الاستثمار الحقيقي يجب أن يوجَّه إلى قطاعات التعليم والبحث العلمي والإبداع والاكتشاف والصحة، ولا يُستنزف في الأبراج والمجمعات التجارية والمنافسات الرياضية التجارية والمهرجانات الصارخة، والمسلسلات والأفلام الفارغة المضمون.
اكتشفنا أن قطاعات من بنية الدول المهنية مهمشة، مستنزفة، ضعيفة الأجور لأنها لا تخدم سطوة النظام، مثل المدرّس والعالم والباحث والطبيب وعامل النظافة والممرض وغيرهم. لذا يتوجب أن نراجع الإغداق على أجهزة الأمن والعسكر ورجال منظومة القضاء وعصابات الإعلام، التي تزين وتصوغ هياكل البروباغندا، وتصقل أبواق النفاق، وتحصد الملايين.
- يستدعي الكتاب سؤالًا آخر: هل ثمة فعلًا نموذج لمدينة، أو عمارة، قادرة على مقاومة الأوبئة؟ وهل ستكون الدول العربية قادرة على تبني هذا النموذج وتطبيقه؟
إن المدن العربية والخليجية، بصرف النظر عن قدراتها المالية المتفاوتة، واجهت تحديات متعددة في كيفية صياغة وتخطيط العمران لتصبح مدنًا أكثر إنسانية وأكثر أمانًا من الناحية الصحية والبيئية. وهكذا، فإن الوباء يتطور إلى أزمة حضرية، مما يضطرنا إلى إعادة النظر في معتقداتنا الراسخة بشأن الشكل الجيد للمدينة والغرض من التخطيط. كما أنه يتيح لنا الفرصة لإعادة النظر في أولويات التخطيط العمراني في العالم ما بعد الجائحة.
ولأن مشهد جائحة كورونا وما تلاها لا يزال يتكشف أمامنا، وينشئ تحديًا أخلاقيًا، فقد يكون الادعاء بأن لدينا حلول فورية هو تصور غير ناضح. ومع ذلك، فإن طبيعة الأطروحات النظرية، أو الممارسات المعمارية والحضرية والتخطيطية، هي المسؤولة عن التطلع إلى الأمام، وصياغة الرؤى، وتقديم البدائل.
أحيانًا أواجَه بفكرة أن الدول العربية تعاني أزمة إسكان طاحنة، وبالتالي لا يوجد ترف للتفاعل مع العائلات، فهم لا يحتاجون مسكنًا بل مأوى يحميهم. هل هذا التبرير يكفي لإسقاط حقوقهم وإنسانيتهم، بل وآدميتهم؟ ثم إن هذا المنطق يتداعى وأنت توثق نفس منهجية التصميم والتخطيط والبناء وهي تتبع في بناء عمارات سكنية فاخرة لعلية القوم، الذين يدفعون للحشر داخلها أرقامًا تبلغ مئات الألوف من الدولارات. كما أن الدراسات الإحصائية أثبتت أن الكثير من المدن والدول العربية ليس بها عجز كمي في المساكن، وإنما عجز في العدالة والالتزام بأن المسكن حق للمواطن.
علي عبد الرءوف: الوباء يتطور إلى أزمة حضارية تدفعنا إلى إعادة النظر في معتقداتنا الراسخة بشأن الشكل الجيد للمدينة والغرض من التخطيط
وصدقت مقولة ينبغي أن تبدأ حقوق الإنسان في المنزل كما ينادي الروائي البارز إدواردو غاليانو. عشرات الآلاف من المعماريين العرب من المفترض أن تكون لديهم الطاقة والقدرة لتقديم طروحات مغايرة تتجاوز القولبة الميكانيكية، وتفرز أفكارًا ومداخل مبدعة لتحويل المساكن إلى ملتقيات إنسانية عائلية تلهم من دروس الماضي، ولا تتنازل عن معطيات العصر.
يجب أن نركز على تصميم وتخطيط مساكن تستوعب حياة بشر يتوقون لدفء العائلة، وقيمة الجماعة، وتأكيد أدميتهم، ولأهمية إمتاعهم بملامح من الجمال والرقي. مساكن تتيح للجميع إمكانية أن يكون لكل خطوة فيها معنى، بل ومعاني يحتفظون بها للأبد في قلوبهم وعقولهم. نريد تصميم مساكن نسكن إليها، لا مخازن بشرية نعلب داخلها، حتى يتوقف تساؤلنا الدائم لماذا أصبحت مدننا قبيحة؟
- ما الشروط التي يجب أن تتوفر في مدن ما بعد الجائحة؟ وماذا بشأن مسائل مثل الثقافة، والاقتصاد، والمجتمع، والسياسة، والعدالة الاجتماعية في هذا السياق؟ وهل نتحدث اليوم عن نموذج عمراني جديد، أم عالم جديد تعيد الجائحة تشكيله؟
في خضم تداعيات فيروس كورونا، تتعاظم تساؤلات أخلاقية متشابكة حول المدينة ومنها: كيفية تخطيطها، وتكيفها مع متغيرات فارقة، والعيش فيها الآن وفي المستقبل. إن القيام بذلك بشكل جيد، سواء كمخطط للمدينة أو مقيم فيها، يعني الاحتفال بالتعقيد وقبول التنوع. ولا يعني هذا إطلاقًا تعظيم الفصل والطبقية والتهميش. من بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، اعتمدت الكثير من دول العالم المتقدمة والنامية على إستراتيجية أساسية واحدة للتعامل مع الفقر والتلوث ومختلف المشاكل والتحديات الاجتماعية الأخرى: الحجر والعزل والفصل والتهميش.
لقد خططت المدن والمجتمعات المحلية بحواجز مكانية، وبنينا جيوبًا محصنة للأثرياء، وسعينا إلى إيجاد حلول تعتمد على فصل من يملكون عن مشاكل من لا يملكون. وبدلًا من الاهتمام بالديناميكية المجتمعية الجماعية والاستثمار العام، حاولنا أن ننحت الفضاءات، ونحجر على المشاكل الاجتماعية، ثم السماح للقطاعات المجتمعية الأكثر حظًا من إجمالي السكان بعزل نفسها عن تلك المشاكل، وتقييد وحصر من يمكنه الوصول إلى مناطق الفرصة.
وللتعامل مع أكثر التحديات التي نواجهها إلحاحًا، أنشأنا نظامًا مطورًا ومعقدًا من متاريس وفواصل وحواجز في الفضاءات. لقد هدم الفيروس كل المتاريس المكانية. الآن يواجه العالم بأسره أزمة الفيروس، وهي الأزمة التي ترفض أن يتم احتواؤها من خلال الحواجز التي بنيناها. في دولة تعلمت حل المشاكل بمحاولة عزلها في الفضاء، كيف يمكننا أن نجتمع معًا لهزيمة هذا الفيروس؟
علي عبد الرءوف: اعتمدت الكثير من دول العالم المتقدمة والنامية على استراتيجية الحجز والعزل والفصل والتهميش للتعامل مع مختلف المشاكل والتحديات الاجتماعية
يجب أن يكون هناك إدراك كامل بأهمية المسؤولية المجتمعية للمعماري، والمصمم العمراني، والمخطط، وضرورة أن فلسفتهم التصميمية تعتمد على إشراك حقيقي للمجتمع، والتواضع أمامه، ليساهم أفراده بلا تحفظ في عملية تصميم وتخطيط فضاءاته ومبانيه ومساكنه.
لقد أوضحت تداعيات الوباء أن كل مدن العالم ترتكب جرائم في حق الفقراء ومحدودي الدخل والعاملين بالأجرة اليومية أو الأسبوعية. هؤلاء لا يمثلون قطعًا أولوية أمام مخططي المدن والمطورين بل وأمام الحكومات أحيانًا. ولذلك يبدو أنه من الواجب الانتقال إلى حقبة تخطيط مجتمع محلي صغير متماسك، وليس التنافس من أجل تحويل مدن العالم إلى مدن متعولمة متضخمة لا مكان فيها إلا لأصحاب القدرات المالية الفائقة. فالتوسع الحضري، وبخاصة في المدن الكبيرة، له عيوبه الجمة كازدحام شبكات النقل، وزيادة التلوث، وتراكم النفايات، وثقافة الاستهلاك.
كما أن الفوارق الاجتماعية والمكانية تجعل الوصول إلى الخدمات الحضرية أمرًا بالغ الصعوبة، وحكرًا على القلة من الناس المحظوظين. ستكون حقبة عمران ما بعد كورونا محفزة لكي نعود إلى مفهوم القرى الحضرية المدمجة، أم أننا ينبغي أن نستمر في الاحتفاء بمفهوم المدن الضخمة المتروبوليتانية؟ لقد أوضحت لنا الأزمة أن "الأقل هو الأكثر" فيما يتعلق بأحجام المدينة وأنساق التنمية العمرانية.
لقد تبين أنه يمكن عزل القرى الحضرية الصغيرة وحمايتها بطريقة أكثر قابلية للحياة من المدن الضخمة. بل إن سكان المدن الكبرى في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، اندفعوا ناحية الريف والقرى الصغيرة هربًا من سيطرة جائحة كورونا على المدن الكبرى مثل باريس ومدريد.
يمكن أن تكون نوعية الحياة والاستدامة الحياتية والعدالة الاجتماعية محل اهتمام في معايير تصنيف المدن، إلا إن مقياس عالمية المدينة يبقى في الإنتاج والحجم السكاني اللذين يمكن قياسهما، كميًا، من الناتج الداخلي القائم والعدد السكاني العام. ففي كثير من الحالات، تساهم مدينة واحدة بالقسط الأوفر من الدخل القومي وفي غنى بلد ما، كما تعمل غيرها في استقطاب عدد كبير من السكان، قد يصل إلى أكثر من نصف المقيمين في بلد ما.
علي عبد الرءوف: يجب أن نركز على تصميم وتخطيط مساكن تستوعب حياة بشر يتوقون لدفء العائلة، وقيمة الجماعة، وتأكيد أدميتهم
فالأهمية النسبية لهذه المدن تُطمس بقوة مواقع المدن الأخرى، ولذلك قد يكون من المناسب أن يطرح المخططون العمرانيون تصورات مستقبلية للتحضر العالمي على أساس الكيانات العمرانية الصغيرة والمتوسطة المتصلة بكفاءة عبر وسائل النقل العام. وكل من هذه الكيانات الحضرية تتوافر بها، على نحو عادل، جميع المرافق المجتمعية، لا سيما السكن والتعليم والرعاية الصحية.
- تقول في كتابك "شعب وميدان ومدينة: العمران والثورة والمجتمع"، إن "ميدان التحرير" هو القلب النابض لثورة كانون الثاني/ يناير 2011 ومحل ميلادها ومركز قوتها والمكان الذي استضاف الحدث السياسي الاستثنائي في تاريخ مصر الحديث. ماذا تبقى من الميدان بعد 3 تموز/ يوليو 2013؟
كتبت محللًا دور الميدان في ثورة 25 يناير، وقدرته المكانية والفراغية على استيعاب الثوار، ومرونته في التحول من فراغ رسمي بارد، ترصد فيه بوضوح يد الأمن الباطشة المعلنة والسرية، إلى فراغ شعبي تملكه الجماعة الإنسانية. ولأول مرة منذ عقود طويلة، تنحت ملامح وجودها نحتًا عميقًا غائرًا مماثلًا لنحت الأجداد المصريين في معابدهم الخالدة.
لقد تحول "ميدان التحرير"، خلال أيام الثورة، إلى تجسيد لقيم إنسانية وتحررية كان الكثير يؤمن بأنها غادرت أرض مصر بلا عودة. ولذلك يركز هذا المستوى على ما يمكن التعبير عنه بالدور الثوري لفضاء الميدان العام المفتوح والمنتمي لأهل مصر.
ولكن، وبصورة متعمدة، تتضاءل قيمة الميدان الذي أُجهضت الرؤية الإبداعية لمستقبله، وكيفية صياغة المبادئ التي تمهد إلى عملية حضارية تخطيطية لضمان استمرارية أداء دوره الجديد بوصفه فراغًا عامًا للمجتمع المصري بقطاعاته المختلفة، وأن يستمر انتماء الناس للمكان، وانتماء المكان للناس. وأن تستمر أيضًا حالة الحج إليه بقيمته الروحية الجديدة، كما يقول الروائي البرازيلي باولو كويلو في وصف التواصل مع الأماكن التي تتعدى قيمتها في قلوب وعقول الناس كل الحدود. والميدان الآن مجرد عمل تجميلي مفتت ومبعثر ولا ينتمي للثورة، أو يذكرنا بها، وهذا هو المقصود تمامًا.
- شهدت الثورة بعد 3 تموز/ يوليو حملة تشويه وتسفيه ممنهجة. ما هو موقع الميدان في هذه الحملة؟ وما هي قراءتك للتحولات التي طرأت عليه بعد هذا التاريخ؟ وإلى إي حد ساهم نظام ما بعد الثالث من يوليو في نقل الميدان من خانة "المقدس" إلى "المدنس"؟
لقد تبين أيضًا، من التحليل الموثق في الكتاب، أن الأنظمة الحاكمة هدفت ومازالت إلى إبعاد الشعب عن "ميدان التحرير" حتى ينسى تمامًا اللحظة الثورية، أو أمكانية أن يتعلم منها، أو احتمالية أن يستدعيها. لذلك كان من الضروري، كما أوضحت الدراسات التحليلية، وخاصةً في الفصل الخامس، إلقاء الضوء على جهود تشوية الميدان ثم إغلاقه وصولًا إلى سياسة تفريغه من كل مقوماته وفصول حكاية نضاله، لا سيما تلك المرتبطة بنضال الشعب المصري بصفة عامة، أو أثناء ثورة 25 يناير بصورة خاصة.
توضح الدراسة التحليلية أن تدمير القيمة المعنوية والرمزية، بل والمادية للميدان، وبصورة تدريجية حتى اللحظة المعاصرة، تم بأعلى درجات الإدراك من المجلس العسكري والنظام الحاكم. هذه الحالة الإدراكية التي استوعبت تمامًا أن إسقاط قيمة "ميدان التحرير" من الوعي الجمعي للشعب المصري، والتشويه الكامل لصورته الذهنية واليوتوبية، هو الفعل الأكثر قدرة على سحق المد الثوري. تحولات وتغيرات الصورة الذهنية الإدراكية، وأيضًا البنية المادية للميدان في سنوات ما بعد ثورة 25 يناير، التي تأرجح فيها فهم دوره بين المقدس والمدنس؛ صاغتها بامتياز كل القوى التي رغبت في ردة عميقة لكل ما نجحت الثورة في تحقيقه.
علي عبد الرءوف: أدرك المجلس العسكري والنظام الحاكم في مصر بأن إسقاط قيمة "ميدان التحرير" وتشويه صورته لتلاية الفعل الأكثر قدرة على سحق المد الثوري
وبصورة منسقة، وبإيقاع جماعي يثير الإعجاب، تغاضى الجميع، حكومةً وشعبًا، عن الغزو المنظم للميدان من قبل المشردين، وقطاع الطرق، واللصوص، والقوّادين، وتجار المخدرات بالتجزئة، وبلطجية الشاي والقهوة. فهؤلاء جميعًا مطلوبون وجنود مجهولون في رسم الصورة الذهنية التي تآمر الجميع على ترسيخها في وعي المصريين. صورة الميدان الجديدة: الميدان المدنس.
- تقول في مقدمة الكتاب إن الأخير يربط العمارة بالسياسة وحوادث العصر وتفاعلات المجتمع. سؤالنا: بعيدًا عن الميدان، هل من دور فعلي للعمارة والعمران في ثورة يناير؟ وكيف يمكن فهم هذه الثنائية وتأثيرها في سياق الحديث عن الثورة ذاتها؟
اتضح من التتبع التاريخي لعلاقة المجتمع والمدينة بالفراغ العام، أن الأخير يلعب دورًا هامًا في التعبير عن مفاهيم المجتمع الأساسية ومعتقداته الحاكمة. فهو، بصياغاته المختلفة، يمكّن الأمة والجماعة الإنسانية من التعبير عن نفسها، والإفصاح عن هويتها، وإبداء الرأي الجماعي فيما يخص تلك الجماعة من قضايا ومشكلات. وبالتالي، فإن صياغة الفراغ العام وتشكيله في التكوين العمراني لأي مدينة هو تعبير في المقام الأول عن حرية المجتمع في إبداء رأيه، والتعبير عن هويته، وممارسة أنشطته الجماعية التي تميزه عن غيره من المجتمعات.
إذًا، الفراغ العام يعطي الفرصة للمجتمع وأفراده لكي يتفاعلوا ويتشاركوا في قضاياهم الحيوية، وبالتالي ينشأ ويتبلور رأي عام له مفهومه الشمولي عن قضايا المجتمع ومشكلاته. كما أنه يساعد على زيادة الانتماء إلى للمكان، ويشجع على التقارب الاجتماعي بين أفراد المجتمع، خاصةً مع تواجد تلك الفراغات بمقاييس مختلفة، حيث تتواجد الفراغات العامة على مستوى المجاورة السكنية، والحي، والمدينة، والعاصمة، وكل منها يحوي العناصر المرتبطة والمتلائمة مع مقياس الفراغ وعلاقته بما حوله.
- ما هو موقع الميدان في التحولات العمرانية التي شهدتها القاهرة منذ "القاهرة الأولى" وحتى اللحظة؟ وما هو موقعه أيضًا في سياق التحولات النيوليبرالية التي شهدتها المدينة خلال سنوات حكم مبارك؟
على الرغم من أن "ميدان التحرير" لم يكن مصممًا ليكون الفراغ العام الأكثر أهمية في حياة الشعب المصري، وخاصةً طبقتيه المتوسطة والبسيطة، إلا أن مراجعة تاريخ هذا الميدان، لا سيما تاريخه في التعبير النضالي، يفسر القيمة الرمزية التي جعلت ثوار 25 يناير يختارونه مسرحًا لبطولاتهم التاريخية غير المسبوقة، ويجعلون منه محور اهتمام العالم في أطول وأقيم وأهم ثمانية عشر يومًا في حياة الشعب المصري المعاصر (25 يناير يوم انطلاق الثورة – 11 فبراير يوم تنحي مبارك).
نمت القاهرة في إطار النطاق الجغرافي الذي يمكن أن يُطلق عليه "القاهرة الإسلامية"، أو "قاهرة المجتمع الإسلامي" التي أُحيطت بالأسوار الدفاعية التي تتخللها بوابات أهمها: النصر، والفتوح، وزويلة. هذه القاهرة الأولى أنتجت الرصيد التراثي لعمارة وعمران المجتمعات الإسلامية، خاصةً في الحقبات الفاطمية والمملوكية. والانتقال الى القاهرة الثانية هو نتاج ما حدث في عصر أسرة محمد علي، وهو تغيير جذري في نمط الحكم وطبيعته، وبالتالي في طبيعة مقر الحكم وتركيبته.
لم يجئ هذا دفعة واحدة، وإنما على مراحل متتالية وصلت أوجها في عصر الخديوي إسماعيل. وقد تجاوزت القفزات العمرانية للقاهرة الحدود الواضحة لعمران القرن الثامن عشر والتاسع عشر. فبعد تجاوز أسوار القاهرة الإسلامية بأحيائها التراثية العريقة، انتظم عمران أحياء جديدة، خارج الأسوار، فاصلًا بوضوح بين طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة في المجتمع.
علي عبد الرءوف: نجحت ثورة 25 يناير في تحويل "ميدان التحرير" من ميدان سيطرت عليه السيارات، إلى آخر تمتلكه وتتفاعل معه الجماعات الإنسانية المصرية الثائرة
وإلى جانب هذين التصنيفين، كان ظهور التصنيف الثالث من عمران القاهرة، أو القاهرة الثالثة التي اتسمت بأحياء ومناطق بلا روح أو ملامح أو شخصية، وأحيانًا بلا تاريخ. هذا النمط العمراني، إلى جانب الأنماط السابقة، هو ما ساهم في خلق صورة المدينة المتشظية المبعثرة.
- يحمل أحد فصول الكتاب عنوان "ثورة ميدان: الميلاد الجديد للفضاء العام". هلّا حدثتنا عن هذه الولادة؟ ظروفها وما ترتب عليها من تغيّرات وتحولات في الفضاء العام في مصر؟ وما هي ملامح ومضمون الفضاء العام الذي تمخض عن هذه الولادة؟
في تغير مدهش، وتحول غير مسبوق في تاريخ القاهرة المعاصر، نجحت ثورة 25 يناير في تحويل "ميدان التحرير" من ميدان سيطرت عليه السيارات، إلى آخر تمتلكه وتتفاعل معه الجماعات الإنسانية المصرية الشعبية الثائرة. وتصل ذروة العلاقة بين الإنسان والمكان إلى أبعاد روحانية عندما يتحول الميدان كله إلى فراغ مقدس يجمع المسلم والمسيحي لتأدية الشعائر، خاصةً ظُهر كل أيام الجمعة التاريخية التي شهدها الميدان أثناء أيام الثورة.
تفوّق الثوار في إطلاق أسماء تلهب المشاعر وتحفز المتظاهرين على الجمع المتتالية حتى رحيل مبارك، ثم بعد استكمالهم للمظاهرات بعد التنحي لإعلان رفضهم لتسويفات المجلس العسكري، ومن أهم تلك الجمع "جمعة الغضب والتنحي". واستمر الميدان يحتضن هذه الجمع حتى أُغلق تمامًا أمام كل صوت معارض أو رافض.
لم يستوعب عمران مدينة القاهرة، حتى الآن، القيمة الكبرى والحيوية للفراغات العامة في المدينة، وهي الظاهرة التي نفسرها بأنها مشروع متعمد لإجهاض الحياة العامة للمجتمعات، وتجفيف القنوات التي يمكن أن تستوعب النبض الصادق لمجتمع يفرح ويحزن ويصلي ويصرخ ويحتفل ويتمرد في إيقاع جماعي لا يمكن، بأي حال، أن يُستبدل بممارسات محدودة خلف أسوار المجتمعات السكنية المغلقة لطبقة الأغنياء، أو في ظلام حواري المناطق الشعبية لطبقة المعدمين والمهمشين.
في بداية السبعينيات، ومع تولي أنور السادات مقاليد الحكم مبشرًا بعهد جديد من الحرية والعدالة للشعب المصري بدأه بما سُمي بـ "ثورة التصحيح" عام 1971، تبلورت فكرة الميدان كحديقة عامة للشعب، وتم إنشاء موقف الحافلات الرئيسي لسكان القاهرة الذي ساهم في أن يكون الميدان مقصدًا لعشرات الألوف، وأُنشئت نافورة مياه عملاقة في قلبه شجعت المزيد من الناس على التواجد والتنزه، خاصةً مع إنشاء كوبري حديدي للمشاة أحاط بالميدان كله في محاولة يائسة للفصل بين حركة المشاة والسيارات لتخفيف الاختناقات المرورية.
وفي العقد الأخير، 2001 – 2011، من حكم حسني مبارك، وحتى تاريخ اندلاع الثورة، تشوهت علاقة الدولة والإنسان المصري والمكان. فقد تركت الدولة مشاكل الناس الحقيقية، وتمادت في بناء مدن ومجتمعات سكنية مغلقة ومسورة بحدائقها الغناء وملاعب الجولف ومجمعات التسوق الراقية، سواءً في مدن ومستعمرات جديدة على حدود القاهرة الكبرى، أو على الساحل الشمالي لمصر. وهي مدن ومستعمرات لا ينتمي إليها الشعب، بأغلبيته الساحقة، الذي هُمش تمامًا، وتُركت طبقته الوسطى تعاني في المدن المتداعية، بينما انطلقت الطبقة الراقية العليا إلى مجتمعاتها المغلقة على حافة الصحراء.
علي عبد الرءوف: ترك نظام حسني مبارك مشاكل الناس الحقيقة وتمادى في بناء مدن ومجتمعات سكنية مغلقة ومسورة بحدائقها الغنّاء وملاعب الغولف
أما الجماعات المهمشة، فقد انطلقت في بناء حزام من العشوائيات تضخم حتى أحاط بالقاهرة كلها، وأنتج فيه عالمًا خاصًا ومتكاملًا من الخدمات والمرافق والمواصلات والإسكان بدون أي تدخل حكومي سوى الاكتفاء بوصف الظاهرة، في الأدبيات الرسمية أو الأكاديمية، بظاهرة تفاقم العشوائيات دون وجود منهج حقيقي وصادق لمواجهته.
في هذا السياق، أصبح "ميدان التحرير"، برغم أهميته الكبرى في حياة المصريين، بما يحتويه داخله وحوله من مبان إدارية، ومؤسسات ومصالح حكومية، وسفارات، إضافةً إلى قربه من مستشفى الشعب الرئيسي "مستشفى القصر العيني"؛ جزءًا من تركيبة فوضوية عشوائية.
ولكن تلك الأهمية لم تأخذ أبدًا طابعًا وطنيًا قبل ثورة يناير. بل إن مستوى العشوائية في الميدان نفسه وتركيبته العمرانية وعلاقة الناس به سائرين آم راكبين، كانت رمزًا ودلالة دامغة على فشل السياسات العمرانية التي طُبقت في عصر مبارك. وهي سياسات تعمّدت، بصورة حادة، تقليص علاقة المصريين بالفراغ العام، حيث يمكنهم التجمع والاحتشاد والتقابل والتفاعل.
وبصورة متعمدة أيضًا، قُسّمت الفراغات العامة الكبرى في مصر، أو تم تسويرها ومنع الدخول إليها، أو أعطيت الأولوية فيها للسيارات والكباري، فأصبحت إمكانية إقامة علاقة بين الإنسان والميدان شبه مستحيلة، تمامًا كما أصبح عليه الحال في أهم ميادين مصر، مثل: التحرير، ورمسيس، وعابدين، والجيزة، وغيرها.
- ثمة مقولات تربط فشل بعض الثورات العربية بعدم قدرة الثوار على الوصول إلى المدن وميادينها الكبيرة، واقتصار تحركاتهم على الأرياف والهوامش. ما رأيك بهذه المقولات؟
أعتقد أن الطاقة الثورية تدفقت في كل مكان وبصور نسبية أثناء ثورات الربيع العربي، لكن الثابت أن الثوار كان عندهم من الفطنة والذكاء إدراك أن ظهورهم المؤثر، وتحويل اعتراضاتهم المبعثرة إلى صرخة اعتراض متماسكة، لا يجب أن يتم إلا من خلال امتلاك أكثر الفراغات العامة أهمية في المدينة العاصمة. وهذا بالضبط ما حدث في حالة تونس و"شارع الحبيب بورقيبة"، أو حالة مصر و"ميدان التحرير"، أو حالة اليمن و"ساحة التحرير"، أو حالة البحرين و"دوار اللؤلؤة".
علي عبد الرءوف: نموذج البناء المتبع في محيط مكة المكرمة هو "نموذج البلدوزر" الذي يعتمد على إزالة كل ما هو قائم والتمهيد لبناء الجديد والمبهر
الأنظمة بدورها انتبهت إلى قيمة ودلالة الفراغات العامة الكبرى في العواصم، وأنها المركز الذي يتدفق إليه الثوار من الأرياف والهوامش وحواف المدينة وأحيائها المركزية أيضًا، فحاولت منع الوصول اليها.
بعد الربيع العربي، واستيلاء الأنظمة الدكتاتورية مرة أخرى على زمام الأمور، تم إزاحة هذه الفضاءات من نسيج العمران المجتمعي، كما حدث في حالة "ميدان التحرير"، أو حتى في حالة "دوار اللؤلؤة" في البحرين الذي تعرّض للإزالة والتدمير بشكل كامل.
- يتبادر إلى ذهن من يصادف كتابك "من مكة إلى لاس فيغاس: أطروحات في العمارة والقداسة"، سريعًا، السؤال التالي: ما العلاقة بين هاتين المدينتين المتناقضتين؟ ما الذي يربط بين مدينة مقدسة بأخرى مدنسة؟
أعلم تمامًا قسوة التشبيه، ولكنه حقيقة لأن التشبيه مرتبط بالقواعد المشتركة للتنمية العقارية، التي تتبناها المدينتان بصورة متطابقة كما أوضحت في كتابي. والتشابه العمراني بين مكة المكرمة، بصفتها مدينة مقدسة، وبين لاس فيغاس بصفتها مدينة مدنسة، هو ما صدمني وما دعاني إلى تأليف هذا الكتاب.
فالمدينتان تشتركان، أو بالأحرى تشترك منطقتا الاستثمار العقاري فيهما اشتراكًا لافتًا في مفهوم حاكم لمنطق التنمية، وهو مرتبط أيضًا بالنقطة الأولى: القيمة العقارية. وهذا المفهوم يمكن تلخيصه في أنّ الحل المثالي للتنمية هو الهدم ثم الهدم ثم الهدم. أو اتباع نموذج البلدوزر في البناء، الذي يعتمد على إزالة كل ما هو قائم، والتمهيد لبناء الجديد والمبهر.
من هذا المنطلق، فإن تتبع المشروعات المحيطة بالحرم، أو المشروعات المحيطة بشارع مدينة لاس فيغاس الرئيس، يوضح جليًا ظاهرة تكرار هدم مشروعات عملاقة لم يمرّ على بنائها سوى سنوات معدودة تمهيدًا لبناء مشروعات أكثر ضخامة، وبالتالي أكثر ربحًا وإدرارًا لملايين الدولارات. وعلى سبيل المثال، فإنّ حوالي 7000 من الوحدات العقارية تمّ هدمها في مكة المكرمة فقط في عام واحد، 2012، لإفساح المجال أمام أعمال التوسيع للمسجد الحرام والتنمية المستقبلية للمدينة المقدسة، بما فيها من مواقع تاريخية ومقدسة.
علي عبد الرءوف: تسيطر المشاريع العمرانية في مكة المكرمة بصورة متوحشة على السياق الروحاني، وتساهم في تقزيم الكعبة، وتحويلها من المركز المقدس إلى مكون هامشي
ومفهوم الهدم هنا وثيق الصلة بالقيم العقارية غير المسبوقة في كلتا المنطقتين. الهدم هنا يعني أنّ الدورة الحياتية للمبنى محدودة للغاية. كما تقترب هذه المشروعات بصورة متوحشة لتسيطر على السياق الروحاني وتقزّم الكعبة، كما حدث بعد بناء مجمع أبراج الساعة الذي حوّل الكعبة من المركز المقدس، إلى مكون هامشي في الصورة المعمارية والعمرانية للسياق.
- تخلص في الكتاب نفسه إلى أن المشاريع العمرانية في مكة المكرمة، أو ما يُعرف بمشاريع توسعة الحرم المكي تحديدًا، تهمش وتغيّب الطابع الديني والروحي للمدينة المقدسة. كيف تفسر لنا هذا الأمر؟ وكيف خلصت إلى هذه النتيجة؟
إن القيمة العظمى للمدينة المقدّسة، مكة المكرمة، لدى مئات الملايين من المسلمين هي في امتداداتها الروحية التي حلّت في المكان عبر تاريخ طويل. فالمخيال الروحي الجمعي للذات المسلمة تعبّأ منذ القِدَم بعبق المكان والإحداثية البسيطة التي يقوم عليها، فعبر هذه البساطة تكمن عبقرية الدهشة، إذ كيف تمكّن – بالتقادم وعبر تعبئة روحية مُتعاظمة ومُتنامية – المكان البسيط المُحاط بالجبال الصخرية أن يُوائم بين الشرط الزمكاني النهائي للإنسان، والقيمة الروحية اللانهائية التي يحملها بين طياته؟
واليوم إذ تعلو الأبراج وتُطاوِل عنان السماء، وما يُرافق ذلك من انتباه الحاج أو المعتمر لها على حساب الكعبة، التي تبدو صغيرة ومتواضعة أمام هذه الأبراج العملاقة، فإن الإنسان المسلم يستسلم للقيمة الدنيوية ورأس المال البشري المُتعملق، على حساب القيمة الأخروية اللانهائية التي تمثلها الكعبة المشرفة وتحملها بين طياتها، عبر تفجير الصاعق الإيماني لدى الحاج أو المعتمر (لا سيما ساعة دخول الحرم المكي ومعاينة الكعبة المشرفة وجهًا لوجه)، تحديدًا بين مخياله الإيماني واندفاعه الحماسي ناحية البقعة المُقدسة التي يتقرب بها زلفى إلى الله.
والتبرير الدائم الذي تسوقه السلطات السعودية لعملية الهدم والإحلال المستمرة، هو الرغبة في استيعاب الأعداد المتزايدة من الراغبين في أداء مناسك الحج. الأكيد أن هذا التبرير يتوافق مع لقب الملك "خادم الحرمين الشريفين"، ومن ثم تسهيل مهمة المسلمين القادمين إليهما.
أمّا ما لا يمكن إعلانه، وهو ما يصرح به كثير من المواطنين والمخططين وبعض موظفي الحكومة السعودية عند اطمئنانهم لعدم نشر أسمائهم، هو أن الدافع وراء كل هذه العمليات هو دافع مالي استثماري بحت. إنها الرغبة في تعظيم الربح من أكثر مناطق الاستثمار العقاري في العالم قيمة.
لقد تمّ تفسير الإسلام والحجيج تفسيرًا يمكّن من تعظيم الدورة المالية والربحية والاستثمارية للنطاقات العقارية حول الحرم، مع تغليفها الدائم بالغلاف الذي يثير العواطف ويدغدغ المشاعر: خدمة زوار بيت الله.
- كيف ترى مستقبل المدينة، دينيًا وروحيًا، في ضوء هذه المشاريع العمرانية؟ وما هي تصوراتك أيضًا حول علاقة الحجاج والمعتمرين بها في ظل هذا التوسع العمراني المستمر؟
إذن، نحن أمام كتاب تحذيري نبهت فيه إلى النمط المتوحش من التنمية العمرانية التي تهدّد روحانية مكة المكرمة، وأوضحت من خلاله أن المدينة المقدسة يجب أن يكون منطق تنميتها وخدمة حجاجها مختلفًا. لقد استشهدت في كتابي بما يحدث في القدس والفاتيكان، حيث الأماكن المقدسة هي أشبه بالمحميات الروحانية، وهذا ما يجب أن يكون عليه مستقبل مكة وسياقها المتاخم. وبالتالي يجب أن تتوقف الأبراج والفنادق والتنمية النيوليبرالية التجارية الهادفة للربح بقسوة، وأن نخلق إطارًا بديلًا يعيد مكة المكرمة والكعبة وما حولها إلى حالتها الأولى: أقدس وأطهر بقعة في وجدان وعقيدة المسلمين.
- أخيرًا، ما هي مشاريعك القادمة؟
أخر عمل صدر لي هو كتاب "عمارة وعمران ومدينة ما بعد جائحة كورونا" (2022)، الصادر عن "دار نشر جامعة قطر"، وهو أول كتاب باللغة العربية في الشرق الأوسط يناقش مسألة أن المدن العربية والخليجية، بصرف النظر عن قدراتها المالية المتفاوتة، واجهت تحديات متعددة في كيفية صياغة وتخطيط العمران لتصبح مدنًا أكثر إنسانية، وأكثر أمانًا من الناحية الصحية والبيئية.
علي عبد الرءوف: يجب أن تتوقف التنمية النيوليبرالية التجارية في مكة المكرمة، وخلق إطار بديل يعيد الكعبة وما حولها إلى حالتها الأولى
أما أعمالي القادمة، فهي تتحرك في محورين. المحور الأول أن دولة قطر قدّمت تجربة تنموية وعمرانية ومعمارية متميزة، على صعيد الشرق الأوسط بأكمله، تستحق التحليل والاستجواب. ولذا أعمل على كتاب يناقش عمارة وعمران قطر المعاصرة راصدًا التوجهات الإبداعية فيها، وكذلك الإشكاليات النقدية.
والمحور الثاني هو امتداد لتصوراتي عن شمولية الفنون، التي بدأتها في كتابي "مدن العرب في رواياتهم". وفي هذا الكتاب الجديد، سأتناول علاقة العمارة والعمران والمدينة بفن السينما، والتبادلات الإبداعية والاستلهامية والنقدية بين المجالين، في السياق الغربي كطرح افتتاحي استدلالي، قبل أن أنتقل إلى التركيز على السياق العربي.