هدِف المفكر وعالم الاجتماع الألماني تيودور أدورنو (1903-1969) وزميله عالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر، في عام 1947، من خلال مؤلفهما الشهير في الفلسفة والنقد الاجتماعي "جدل التنوير.. شذرات فلسفية"، كما كتبا في المقدّمة؛ إلى "محاولة فهم، كيف أن الإنسانية التي بدل أن تلتزم بشروط إنسانية حقّة، سرعان ما راحت تغرق في شكل جديد من أشكال البربرية".
بحث المفكر الألماني تيودور أدورنو في مسائل لا تزال مجال بحث وجدل إلى يومنا هذا، مثل الفاشية وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة
ولد تيودور أدورنو عام 1903 لتاجر نبيذ يهودي، لذا امتلك أسباب وجيهة للتفكير مليًّا في تلك المسألة. وعندما تسلّم النازيون مقاليد الحكم عام 1933، مُنِع الموسيقار والمنظر الاجتماعي، الذي كتب أطروحة التأهّل للأستاذية حول سورين كيركغارد، من التدريس.
اقرأ/ي أيضًا: أوروبا واليمين.. عصر الظلام المقبل
كما قامت الشرطة الجنائية النازية بتفتيش منزله ومكاتب المعهد الذي كان يُدرِّس فيه، ورُفض طلبه في الحصول على عضوية اتّحاد الأدباء في الرايخ، لأن العضوية اقتصرت "على الأشخاص المنتمين للأمَّة الألمانية من خلال روابط الدم"، ورُدّ على طلبه بـ"لا يمكنك الإحساس أو تقدير ذلك الالتزام"!
وبعد إقامته لأربع سنوات في أكسفورد ببريطانيا، هاجر إلى الولايات المتّحدة، حيث أصبح عضوًا رسميًا في معهد البحوث الاجتماعية بنيويورك عام 1938. ثم عاد أدورنو عام 1949 إلى فرانكفورت، حيث انضمّ إلى مدرسة فرانكفورت للنظرية الاجتماعية والفلسفة النقدية، إلى جانب مثقّفين آخرين مثل ماكس هوركهايمر وفريدريك بولوك و ليو لوينثال وفالتر بنيامين وهربرت ماركوزه وإريك فروم وسيغفريد كراكاور.
بحث أدورنو في مسائل لا تزال مجال بحث وجدل كبير إلى يومنا هذا، كالعلاقة بين التفاني للسلطة وبين الفاشية. وعندما فاز الحزب الوطني الديمقراطي الألماني اليميني المتطرف (NPD) بمقاعد محلية في برلمانات ستّ ولايات عام 1967، ألقى محاضرة للطلّاب في فيينا، بعنوان "جوانب التطرّف اليميني المعاصر".
المحاضرة التي لم تكن موجودة إلّا كتسجيل صوتي، نشرت أخيرًا باللغة الألمانية هذا العام. وكتب خاتمتها المؤرّخ فولكر فايس، الباحث في تطرّف الأحزاب اليمينية.
أجرت شبكة دويتشه فيله الألمانية حوارًا مع فولكر فايس، لمناقشة مدى أهمية تيودور أدورنو اليوم. في السطور التالية، ترجمة "الترا صوت" لهذا الحوار.
- تمتع تيودور أدورنو بشعبية واسعة في أوائل الستينات كناقد للرأسمالية. وها هو يعود الآن إلى الأضواء بعد مرور 50 عامًا على وفاته. ما الذي يجعل عمله ضروريًا في مجتمعنا المعولم اليوم؟
لم تقتصر فلسفة أدورنو على نقد الرأسمالية، بل قدّمت أيضًا جردًا شاملًا للحداثة. كما أولى اهتمامًا خاصًّا بتأثير التطوّر المجتمعي على الفرد، بالبحث في كيف يمكن أن تكون مسيرة التحرّر، وكيف بإمكانها خلق تهديدات جديدة أيضًا.
أدرك أدورنو، كماركسي نبيه وذكي، أن من المستحيل وغير المرغوب فيه، إيقاف التطوّر التكنولوجي؛ لذا لم يقع في التفاؤل الساذج الذي ساد اليسار فترة طويلة.
استند تفكيره على الخبرة المعرفية المهولة التي وُظّفت في خدمة الحكام بدل التحرّر. كما رأى أدورنو كيفية تحول التنوير، بعد وصول ذروة التقدّم التكنولوجي بدرجة ما؛ إلى بربرية جديدة. ووفّر القرنان الـ19 والـ20 مادّة كافية لذلك.
ومع أن مفهوم "العصر الحديث" عفا عليه الزمن، إذ نشير اليوم إلى "حداثات" متنوعة ومختلفة، لكن تظل أسئلة أدورنو الجوهرية ذات أهمّية اليوم.
- كان أدورنو مفكّرًا لا ناشطًا، ومع ذلك أصبحت عبارة "حياة خاطئة لا يمكن أن تُعَاش على نحو صائب" شعارًا رائجًا. إلام تشير تلك العبارة؟
يشير هذا القول المأثور من كتاب "الأخلاقيات الدنيا" إلى استحالة إيجاد سعادة شخصية وسط تطوّرات المجتمع الكارثية. لدى المجتمعات الحديثة ميل للتأثير على كل مجال من مجالات الحياة، ولا يعفينا ذلك، على أية حال، من محاولة خلق حياة حقيقية. وبلا شكّ لم يهدف أدورنو إلى كتابة حِكم لتوضع على أوراق التقويمات وحسب!
- فاز الحزب اليميني المتطرّف NPD بمقاعد في البرلمان عام 1960، أي بعد 20 عامًا فحسب من سقوط النازيين. كيف شرح أدورنو عودة التطرّف اليميني؟
رأى أدورنو أن أوجه القصور في الديمقراطيات الغربية، سبب أهمّ في حدوث تلك المشكلة من أنشطة النازيين القدامى، الذين كان لا يزال لهم حضور جيّد في الستينات.
كان أدورنو على علم بأن اليمين المتطرف يستمد قوّته من خيبة أمل الناس في عصر التحرّر الضائع؛ فقد قيل لهم منذ القرن الـ19 أن كل شخص هو هو الحاكم في ثروته الخاصة، ومع ذلك حجبوا عن ثرواتهم دائمًا، بحدود وحوائط خفيّة، لهذا أطلق أدورنو على الحركات الفاشية تسمية "ندوب الديمقراطية".
- نُشرت المحاضرة التي ألقاها أدورنو للطلاب عام 1967 ككتاب تحت عنوان "جوانب التطرّف اليميني المعاصر"، وما لبث حتى صعد إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعًا. لم تبدو المحاضرة كما لو كانت شديدة المعاصرة؟
لا تزال تلك الندوب التي ذكرناها، موجودة إلى يومنا هذا، فمثلًا إذا نظرت إلى العجز الديمقراطي للأجهزة البيروقراطية كالاتحاد الأوروبي، فستجد أعداد متزايدة من الناس تفضّل مواجهة سلطة واضحة، كدولة قومية غير ليبرالية، بدلًا من أجهزة مجرّدة غير مفهومة. لذا، لا زال لدى أدورنو ما يخبرنا به على الصعيدين الاجتماعي والنفسي.
أضف إلى ذلك أن التطوّرات الاقتصادية والتكنولوجية (وقد أشار أدورنو في هذا الصدد إلى تركّز رأس المال والأتمتة) تشعر الناس بالاضطراب، وأنه لا حاجة إليها. كما تدفعهم الأزمات الفعلية أو المفترضة إلى الرغبة في رؤية كل شيء ينتهي.
ولا تزال الحركات اليمينية المتطرّفة اليوم، معروفة بتلك السمات الكارثية، التي نصفها خوف ونصفها حنين إلى الماضي. كما أن الأساليب التي لاحظها أدورنو آنذاك، لا تزال مستخدمة في يومنا هذا. وبإمكانك أن ترى في الإنترنت كيفية الجمع بين الكمال التقني والمحتوى المبهم.
- بم يوصي أدورنو من أجل مواجهة السياسات اليمينية المتطرّفة؟
أدورنو متحرّر من وهم إمكانية تحوّل قادة اليمين وانضمامهم إلى طاولات الحوار، وبدلًا من ذلك، كان يوصي بوضوح شديد، بضرورة الإشارة ولفت النظر إلى عواقب السياسة اليمينية المتطرّفة وجوانبها المدمّرة، والأهمّ من ذلك كلّه، كان يريد من الشباب الابتعاد عن تلك الحركات.
اقرأ/ي أيضًا: