لم تكن الأولى، ضمن لائحة طويلة من الأصدقاء، التي تشكو لي شعورها بالإساءة من عنصرية متعمدة خلال أيامها الأولى في الغرب، على الأرجح، لم ينجُ أحد من أحد أشكال العنصرية المتعددة، إما أحد المواطنين البيض يشعر بالأفضلية والاستحقاقية لإهانة غيره من الشعوب الأخرى الملوّنة، أو صاحب عمل يكره الوافدين إلى بلاده فيرفض توظيفهم، أو مدير يتعمد الإساءة والتوبيخ لمن هم أغمق بدرجة من لون بشرته، أو غيرها من اللائحة التي تبدأ من افتعال المشكلات في الشوارع والتلسين على المهاجرين، ولا تنتهى بخطابات الكراهية والتحريض وحوادث القتل في بعض الأحيان.
ليس فقط شكاوى العنصرية التي عاناها الأصدقاء الراحلون من بلدانهم مجبرين بعدما أكلت الحروب والصراعات السياسية والمعتقلات أكبادهم، "كان المنفى باردًا.. والناس باردة". تكررت الشكوى من الوحشة وصعوبة الاندماج في البلد الجديد، البرودة القارصة التي لم نعتدها في بلداننا نخرت عظامهم، وانعكست على شكل العلاقات الإنسانية، فوجدوا صعوبة في خوض علاقات عاطفية أو تشكيل شبكة اجتماعية جديدة، اختار البعض الانزواء والعيش في بوتقة تجمعه مع أحزانه وذكرياته والحنين إلى الوطن والأصدقاء، واستمر البعض في محاولة التطبيع مع البلد الجديد، ينجح تارة ويفشل تارة.
ما أصعب أن يبدأ الإنسان حياة جديدة من الصفر ومن تحت الصفر في بلد أخرى، لها لغتها المختلفة عن لسانه، ولها طباعها الخاصة بها، وتراثها وتاريخها
صرت أخشى الذهاب نحو الشمال، تلك البلاد المتقدمة التي تلفظ أمثالنا من العالم الثالث المتخلف، أرض الضباب التي تكره الغرباء من أبناء الشمس، ما أصعب أن يبدأ الإنسان حياة جديدة من الصفر ومن تحت الصفر في بلد أخرى، لها لغتها المختلفة عن لسانه، ولها طباعها الخاصة بها، وتراثها وتاريخها وثقافتها المختلفين كليًا عمّا يعرفه وعاشه طيلة سنوات عمره.
تبدأ التعلم من جديد كأي طفل في الخامسة من عمره، كيف تتهجى الأحرف والكلمات في اللغة الجديدة وكيف تكوّن جملة صحيحة دون أخطاء، وأن تعتاد يديك على رسم الأحرف اللاتينية بشكل سريع ومقروء، وأن تتعلم العيب والاتيكيت والصواب والخطأ، حسبما تقتضيه قوانين الدولة الجديدة، وأن تنسى الأطعمة المحببة إلى قلبك وتحاول الاستمتاع بأصناف جديدة لا تستسيغها معدتك، وأن تعبر عن مشاعرك وأفكارك بلغة غريبة عنك، ثم تنام لتأتيك الأحلام بلغتك الأم وفي وطنك الأم، فيصبح الحلم واقعك الجديد، وينقلب الواقع إلى ضرورة يومية عليك خوضها مجبرًا حتى تعود إلى غرفتك حيث تواجه حقيقتك وتستعد لمقابلة الحلم من جديد.
أوطاننا ليست بريئة من أشكال العنصرية، فلكل مكان عنصريته، ولكن يبدو أن الغربة والوحدة تزيد من حساسية الإنسان تجاه أي كلمة من الغريب، وربما لأنها عنصرية من الغريب فتلمس الجرح المفتوح الذي يذكّرنا بحقيقة عدم انتمائنا إلى هذا المكان، بينما العنصرية في محيطنا الجغرافي القديم يكون متقبلًا، في أغلب الأحيان، على أنه حس ساخر أو كدعابة خفيفة، إنما في بلاد الضباب، كل شخص يعني جيدًا ما يقوله.
عندما يحدثني أحد الأصدقاء عن الشعور بالإساءة، استذكر الموسم الأول من المسلسل الشهير "صراع العروش"، عندما التقى القزم تيريون لانيستر بـ جون سنو، الابن عير الشرعي لـ نيد ستارك. كانت الأجواء احتفالية بقدوم الملك وجميع أبناء ستارك يجتمعون في الحفل، بينما سنو الابن غير الشرعي لم يشاركهم الاحتفال، لأن البعض يجد في الأمر إهانة لوجود "ابن زنا" ضمن مائدة احتفال ملكي. تعمد القزم الإساءة لسنو أكثر من مرة، بتذكيره بذلك، مستخدمًا اللفظ المهين "Bastard"، حتى خرج جون سنو عن شعوره، ليسأل القزم بغضب: "ما الذي تعرفه عن كون الشخص ابن زنا؟"، فيجيبه القزم بكل ثقة: "جميع الأقزام هم أبناء زنا في نظر عائلاتهم!"، ثم يعطيه نصيحة مجانية: "يجب ألا تنسى حقيقتك، حينها لن يتمكن أحد من الإساءة إليك".
هذه هي الآلية الدفاعية التي أستخدمها، ألا ننسى حقيقتنا وأين موقعنا، حينها لن يتمكن أحد من إيذائنا أو الإساءة إلينا، لأن كلماته ستتحول إلى كلام فارغ بلا أي تأثير على مشاعرنا، ستمر كما نقول من الأذن اليمنى حتى تخرج من الأذن اليسرى بلا أي أثر داخلي.
نحن أبناء الشمس المهجّرون قسرًا، الذين كُتب عليهم البقاء غرباء في بلاد الضباب، نحاول الاندماج والخروج من غربتنا، ولكن علينا دومًا أن نتذكر حقيقتنا وألا نتنصل منها، لن تتغير ألوان جلودنا ولن تتبدل ألوان العيون ولن يُنظر إلينا كجزء أصيل من المجتمع الجديد أو كمواطنين بيض، ولن نشعر بالانتماء المماثل لانتمائنا القديم، ولن تصيبنا نفس درجة الشجن والحنين إذا انتقلنا إلى بلد آخر، تلك أشياء يجب أن نفهمها ونتقبلها حتى نحمي أنفسنا من سهام العنصرية سواء غير المتعمدة أو تلك التي عن غير قصد.