ظل واقفًا بعيدًا عن الحشد متكئًا على جذع الشجرة يراقب من بعيد الجمع الذي ملأ المكان، لم يعتد هذا العدد الكبير من الناس من أين أتوا فجأة؟ لم يتجاوز الأمر نصف ساعة وانفض الجمع إلا امرأة تضع علي رأسها شالًا من الدانتيل الأسود الذي ترك جزءًا كبيرًا من شعرها الكستنائي يظهر من تحته، وقفت قرابة العشر دقائق تراقب التراب الندي ثم انصرفت، لم تقم بأي حركة سوى أنها ربتت براحة يدها على القبر. هبت ريح طيرت الشال من على رأسها فعلق بغصن شجرة البلوط ، لم تهتم له، فقط حركت رأسها يمينا وشمال فانسدل شعرها حد كتفيها.
اقتربَ من المكان حيث كان الجمع، كومة من التراب ما تزال مبللة وآثار كفوف ربتت عليها بعضها لتسويتها وإزالة الحصى والبعض الآخر للوداع. لم يكن للقبر شاهد فالعادة جرت أن يُبنى وتُوضع له قطعة من الرخام منقوش عليها آية قرآنية واسمه بعد مرور ثلاثة أو أربعة أيام من الدفن، وكأنها فرصة أخيرة له للقيام مرة أخرى والهروب من هذه الحفرة التي ردم فيها قبل أن يُسمى القبر باسمه، ويكتب عقد الملكية على الشاهد الرخامي.
الثامنة صباحًا فتح عينيه على بياض ناصع، ارتبك للحظة ثم أدار رقبته إلى اليمين فداعبت أنفه رائحة زيت الورد الذي ينبعث من شعرها، ثم التفت يسارًا أين ارتسمت أشعة الشمس المتسللة من خلف الستارة على الحائط. تمنى لو أن بإمكانه التمطط وشد عضلاته إلى الأعلى والأسفل مثل طفل صغير، لكن سنواته العديدة خانته، اعتدل في جلسته واضعًا قدميه أرضًا، سرت فيه رعشة خفيفة جراء التماس كفي قدميه بالبلاط البارد. اتجه نحو النافذة وفتح الستارة فبانت له شجرة الليمون وهي تتمايل بسبب الرياح القوية خارجًا، هرش عانته بيده فلامس كتلة رخوة استكانت هناك منذ سنوات، لم يستيقظ شيؤه منذ زمن، وحتى يوم حسب أن بإمكان حصانه الصهيل والعدو مجددًا تفاجأ بحركته التي باتت تشبه حركة الكوالا بطيئة وخجولة، ساعتها يدركه فوات الأوان فيعود وينكمش على نفسه من جديد.
فجأة باغتته الذكرى بعنف جعلت تطرق رأسه مثل مطرقة حداد، تسارعت الأحداث أمامه إلى أن توقفت عند مشهد وفاة والدته، تقلص حجمها فباتت مثل طفل في العاشرة ممدد على السرير مغطى بلحاف ناصع البياض يعلوه غطاء أخضر مطرز بآيات قرآنية، لم يفهم أبدًا الفائدة من ذلك الغطاء الأأخضر حد هذا اليوم. لم يبك أأمه ولا حتى عندما عاد الى المنزل بعد مراسم الدفن، لم يتغير شيء في غرفتها فقط رائحة العنبر التي تزكم الأنف، وضع المنديل الورقي على أنفه لكي يخفف من قوة الرائحة، اجتاحه شعور غريب وهو يشاهد ثوب أمه المعلق في زاوية الغرفة، إحساس بالخواء وكأنه قوقعة فارغة، قشر حلزون أخرج رأسه فضولًا فاختطفه منقار ديك احمر تاركًا الفراغ وراءه.
يوم خريفي ممل يبدأ من جديد، منذ سنوات لم يتغير روتين حياته اليومية، يجلس إلى الطاولة الدائرية في المطبخ يعد قهوة ويشربها دون سكر. ظلت رائحة العنبر التي انبثقت فجأة من ذاكرته تطوف في المكان، صب قهوة ثانية واتجه إلى المكتب، لا يزال الكتاب على حاله مغلقًا ظهره للأعلى، أخذه واتجه به إلى غرفة النوم من جديد. وضع كوب القهوة على المنضدة بجانب السرير ثم فتح الدرج وأخذ منه علبتين من الدواء، صب الأولى في يده ثم شربها مستعينًا بالقهوة وكذلك فعل بالعلبة الثانية.
أخذ ورقة بيضاء وخط عليها بعض الأسطر، عليه أن يسرع قبل أن يبدأ الدواء مفعوله، طواها على أربع ووضعها بقربه ثم أخذ الكتاب لم يتبق سوى ثلاث صفحات وينتهي من قراءته، استند واضعًا الوسادة بشكل طولي خلف ظهره، فتحه وشرع في القراءة بسرعة الصفحة الأولى ثم الثانية، ومع بداية الصفحة الأخيرة شعر بأن جفنيه بدأا في الارتخاء، وأن يده لم تعد قادرة على الإمساك بالكتاب. أصبحت الحروف والكلمات تتراقص أمام عينيه، حاول بجهد أن يثبتها في مكانها ويقرأها بشكل سليم إلا أن الأمر أصبح شبه مستحيل، بقي أمر أخير عليه القيام به قبل أن يدخل في سبات طويل، حرّك رقبته بصعوبة شديدة إلى اليمين ثم بدأ في زحزحة يده نحو شعرها، كانت ثقيلة تخدرت أصابعه فلم يعد بمقدوره تحريكها، فقط سنتمترات قليلة وتلامس أطراف أصابعه خصلة ضلت طريقها وبقيت وحيدة بعيدة عن قطيع الخيل الراكض على الوسادة.
"صغيرتي علياء
اليوم حان وقت الرحيل، راودتني الفكرة من سنوات طويلة لكن ظهورك هو من أجّل تنفيذها وددت لو أنني امتلكت الشجاعة للمواصلة بجوارك، لكن لا أمل من رجل نسي كيف يبتسم فكيف سيرسمها على وجهك الصغير؟
الأمل ليس إلا وجهًا آخر للحنين، حنين إلى أيام خلت لا قدرة لي على استرجاعها، سأكون دائمًا قريبًا، أوصيك بمكتبتي" (كتبت آخر جملة بخط مرتعش)
أعادت طي الرسالة ثم وضعتها داخل الكتاب الذي وجدته بين يديه "أدباء منتحرون". كتاب لم تعلم ماذا تفعل به، عصفت الريح بقوة مصدرة صوتًا موحشًا، نظرت من خلال النافذة إلى شجرة الليمون بأغصانها شبه العارية تتمايل بقوة بسبب الرياح كمن يلوح لها مودعًا من بعيد، حرّكت يدها في مماهاة لحركة الشجرة. عندما غاب خيالها من أمام النافذة تسلل من وراء الجذع داسًا رأسه تحت قبعة سوداء محتميًا من الرياح بمعطف أسود يصل حد الركبة.
اقرأ/ي أيضًا: