كنّا في بعض الأحيان نعيش بهدوء.
كنت أنا وأمي، أحيانًا، نضحك معًا في بعض الأوقات القليلة التي تختفي فيها ملامح الإرهاق والحزن القائِمَين أبدًا في قسمات وجهها، ويظهر مكانهما لمحات من ابتسامٍ ربما تطوّرت إلى ضحكة ترنّ في أذنيّ لثانيةٍ، لكن يبقى صداها في ذاكرتي طويلًا لندرتها. أحب ابتسامة أمي وضحكتها، وقبلهما أحب عبوسها وحزنها. أحبها أيًا كان حالها.
كانت تبتسم وتلاطفني في تلك اللحظات القليلة التي لا يسعني العالم فيها من الفرحة. أضحك وأضحك مقهقهًا وإن كانت ملامحي لا تبدو عليها حتى شبح ابتسامة. لو رآنا آخر لما أدرك سعادتي وضحكاتي، لكن أمي كانت ترى ابتسامتي وتسمع ضحكاتي وإن كانت غير مرسومة على وجهي.. كان قلبها يرى قلبي ويسمعه.
كنت أحاول أن أبتسم أو أضحك بخلجات وجهي، لكني أبدًا لم أستطع. لم يكن شيئًا مهمًا طالما أن أمي تدرك ما أشعر به حقًا. عيناها تخبرني: "لا ترهق نفسك يا محمّد.. الخارج للعالم يا ولدي، والداخل لي. الظاهر للعالم يا ولدي، والجوهر لي".
لم يكن هذا هو الأمر الوحيد الذي لا أستطيع فعله.. فأنا تقريبًا لا أستطيع فعل أي شيء من الناحية الحركية أو الظاهرية.. لا أستطيع المشي وحدي، ولا الأكل وحدي، ولا قضاء حاجتي وحدي. لا أستطيع نطق الكثير من الكلمات، ولا أستطيع رسم تعبيرات على وجهي تعبّر عما يدور في داخلي. من الداخل، كنت أستطيع فعل كل شيء: أن أحب، وأغضب، وأضحك، وأحزن، وأحلم. وكان قلب أمي وحده يشعر بكل ذلك وهو يحدث، ربما قبل أن يحدث!
الله أهدى إليّ أمي، وأنا أحب الله كثيرًا لأنه أهداها لي. أمي هي كل العالم، ولذلك فأنا أحب كل العالم.
رأيت الله في أحلامي ورأيت أمي في صحوي، ورأيت الله في أمي في أحلامي وفي صحوي.
يا الله، كم أنت جميل! كم أحبك! أحبك كما أحب أمي، ربما أكثر لأنك منحتها لي، وتحبني أنت كما تحبني هي، ربما أكثر لأنك جعلتها تحبني.
أدرك أن هناك عالم بالخارج، كنت أراه من نافذة غرفتي، أرى سماءً زرقاء واسعة وطيور تحلق أسرابًا وفرادى وأسمع نغمات تغريدها. سحبٌ بيضاء جميلة تشبه القطن. أحيانًا كنت أرى ماء ينزل من السماء سمعت أمي تسميه "مطرًا"، أنوار تضرب وتختفي سمعت أمي تسميها "برق". أصوات مطارق مرعبة سمعت أمي تسميها "رعد". فهمت أن العالم في الخارج يتغير ويتبدل أحيانًا. أحيانًا يكون حنونًا، وكثيرًا ما يكون مخيفًا، فحمدت الله على عالمي في الداخل الذي لا يتغير ولا يتبدل أبدًا.
كنت أعرف أن هناك أشخاص آخرين في الخارج، كانوا أحيانًا يدخلون ليجالسوننا لبعض الوقت ثم يغادرون، منهم نساء يشبهن أمي ومنهم أطفال لا يشبهونني. لم أرَ أحدًا يشبهني على الإطلاق. هل هناك في الخارج من يشبهني؟ لست متأكدًا، وإن كان من يشبهني موجودًا، فأعتقد أننا لن نلتقي أبدًا ولن يتلاقى عالمانا. شكرًا يا الله لأنك خلقتني مميزًا لا أحد يشبهني!
مؤخرًا أصبحت أسمع صوت المطارق المرعبة كثيرًا. فيما مضى كان يصحبها تغير في لون السماء ومياه تهطل فكنت أفهم أنها رعد. أما الآن، فتصحبها نيران مشتعلة ودخان يتصاعد في السماء. يصحبها أيضًا أصوات من الخارج لأناس كثر يصرخون ويبكون. تصحبها كذلك دموع أمي وخوف وحزن غير الحزن المعتاد الذي أراه في وجهها. لم تكن لدي خبرة في تغيرات من هذا النوع في العالم بالخارج.. هل تغيرت طبيعة الرعد؟! ربما، المهم أن عالمي في الداخل كما هو. أمي، وإن زاد خوفها وحزنها، كما هي.
في ذلك اليوم دخل عالمنا أشخاص كثيرون. كانوا رجالًا يرتدون زيًا موحدًا، يلبسون شيئًا معدنيًا ثقيلًا على رؤوسهم، ويحملون أشياء معدنية ثقيلة فى أيديهم، ويتكلمون كلامًا لا أفهمه. رأيتهم يقتربون من أمي و يصرخون في وجهها. أمي تبكي وتصرخ وهي خائفة. يدفعونها فتسقط. كنت جالسًا على الكرسي المفضّل لدي ، الكرسي الذي أجلس عليه طوال اليوم، أو ربما طوال العمر. كنت أنظر إليهم والغضب يغلي في قلبي لكن لا شيء يبدو، كالعادة، على ملامحي. كنت أريد أن أدفعهم وأحمي أمي منهم لكني، كالعادة، لم أحرك ساكنًا. لم أفهم ماذا يريدون منها وماذا يريدون من بيتنا. يبدو أنهم كانوا يبحثون عن شيء ما أو شخص ما. كانوا عنيفين شرسين كارهين أشرار الملامح ولم أفهم لماذا!
فجأة، دخل مخلوق قصير أسود اللون طيب الملامح يغطي الشعر جسده بالكامل ويجرى على أربع. يلهث كثيرًا، ربما كان منهكًا من ركضه وحركته السريعة، يبدو أنهم أحضروه معهم. كان شكله لطيفًا و جميلًا على عكسهم. رأيته يقترب مني فظننت أنه يريد اللعب، لكنه فتح فمه الكبير واقترب من كتفي، ثم أغلق فمه على كتفي.. يا إلهي! لم أكن أعرف أن أسنانه حادّة إلى هذه الدرجة.. المسكين ربما يكون جائعًا.
لكن.. لكن هذا مؤلم جدًا. مددت يدي وربّتّ على رأسه: "سيبني يا حبيبي.. خلاص"!
رأيت السائل الأحمر يسيل ويغرقني. سمعت صرخات أمي، ورأيت وجهها الباكي. أغمضت عيني، ثم فتحتهما لأرى عالمًا غير العالم الذي كنت أعيش فيه في الداخل، وغير العالم الذي كنت أسمع عنه في الخارج. يا الله! أكلّ هذا من أجلي أنا؟! كم أحبك! ليتك يا أمي تأتي لتري.
* إلى روح الشهيد "محمد بهار"، وكل أرواح شهداء قطاع غزة.