هذه هي المرة الأولى التي أتوقف فيها لألتقط أنفاسي منذ أن غادرت قريتي في ريف إدلب، تركت خلفي أمي المريضة التي لم تقو على الرحيل، بقيت تحرس بيتنا المتداعي وذكرى أبي.
على شاطئ إزمير أقف، البحر من أمامي، ولا وطن خلفي، هربت منه كي أجد وطنًا آخر فهل يغفر لي ذاك الوطن الذي تركته؟
بناتي الثلاث يجلسن على الرصيف بجوار أمهن، الرضيعة تغفو في حضنها، وابني يقف بجانبي يرقب السوريين المنتشرين في كل مكان، متعبين ومنتظرين شيئًا ما.
هنا حيث كلمة سوري لا تعني جنسية ما، سوري تعني أنك متعب وأنك هارب، وأن في قلبك ألف قصة وجع، وفي عينيك كل بحار العالم.
لا أعرف كيف وصلنا إلى هنا، والطريق طويل بين حواجز وحواجز أخرى ونيران تطلق ولا نعلم مصدرها، وقذائف تكاد تسقط علينا فتخطئنا، أتفقد محفظتي ويكاد قلبي يقفز من مكانه حتى أطمئن أنها هنا في مكانها، وضعتها هناك بجوار قلبي ووشددت عليها الحزام العريض الذي يسند ظهري.
متعب أنا وأكاد أقع أرضًا، هواء البحر يذكرني باللاذقية التي كانت زيارتها بالنسبة لنا حلمًا بعيد المنال، وكانت ملامسة ماء بحرها تكلفنا سنوات لنستطيع جمع مبلغ ننفقه في ثلاثة أيام على شاطئها، ونعود سريعًا لبيتنا البعيد مدركين أن البحر ليس لنا، بل لضباط وتجار ومسؤولين لا يشبعون، حتى من البحر!
رائحة الملح تبكيني، صوتي ليس جميلًا لكني أريد أن أغني .. أمان أمان.. وميجنا.. ويا مال الشام، بي رغبة بالتخلص من كل ملابسي المثقلة بالغبار والعرق والركض على الرمال، أريد أن أبني لصغاري بيتًا من رمال، بعد أن بعت منزلنا الذي بنيته حجرًا حجرًا لهم، حملتهم وهربت قبل أن ينهار المنزل فوقنا ويدفننا سقفه.
متعب أنا من رؤية أجسادهم المنهكة التي تريد أن تغتسل بالبحر كأسماك صغيرة في نزهة بحرية، لكنها لا تقوَ على المشي من هول الرحلة الشاقة التي جلبتهم فيها.
نحمل أغراضنا ونجر أقدامنا المتعبة في رحلة البحث عن سقف يأوينا، بالكاد أستطيع التفاهم مع الموظفين في الفنادق، إشارة من يدي، كلمة بالإنجليزية وأخرى بالعربية، أخيرًا وجدنا غرفة صغيرة لنا، أنام ممددًا على الأرض مستمتعًا بصوت الماء وهو يغسل وجوه أطفالي وأمهم تغسل ملابسهم، لكن حلمي البحري لم يدم طويلًا.
أستيقظ على صوت الصغيرة وكأنها تصرخ فزعة من حلم مرعب، قدماي وكأنهما تخشبتا، بالكاد أستطيع المشي، إنها المرة الأولى منذ سنوات أنام دون قصف، في مكان آمن، وفيه ماء وكهرباء، وقدماي اللتان أنهكتا لطول المسير تخذلاني أمام بكاء ابنتي.
أسبوع مضى وأنا أحاول العبور للضفة الأخرى من هذا البحر، لكنه ينظر إلي ويضحك ساخرًا، وأنا أكاد أصاب بالجنون من ضحكته.
أسبوع بين المهربين، وحواجز الشرطة التي تقطع سبيل الباص وتنزلنا للتفتيش، وحواجز قطاع الطرق الذين طلبوا مني مائة دولار عن كل شخص كي يسمحوا لنا بالمرور، وفي "النقطة" التي سنركب منها القارب انتظرنا مرات دون أن يأتي أي قارب، كان البحر ينظر إلينا ونحن نبكي وهو يضحك!
لكن الحظ ابتسم لنا أخيرًا، وجاء القارب الموعود، قالوا لنا أن القارب سيقل خمسين شخصًا، لكننا وجدنا في "النقطة" مائتين!
لم يكن هنالك من وقت للتراجع، لم تعد النقود بحوزتي تكفي لانتظار أيام للرحلة القادمة، أيها الفقير لك الله! وضعت أطفالي الصغار وزوجتي في القارب الذي يتمايل يمينًا ويسارًا وعيونهم المترقبة الخائفة تحلم بأن تطأ أرض أوروبا، أرضًا صلبة وثابتة، وليكن ما يكون بعدها!
كنت أتحسس "الموبايل" الذي غلفته ووضعته تحت سترتي، كان الجو سيئًا وبدت الغيوم في الأفق.
وفجأة، عبس البحر، تشبثنا بسترات النجاة، كنا نعلو ونهبط مع الأمواج كأسماك ميتة! كأخشاب غرقت سفينتها فهامت على وجهها في البحر لا تعرف أي شاطىء سيلتقطها!
أضم بيدي الضعيفتين أطفالي وزوجتي، والأمل يحملني، والخوف يهبط بي!
يا بحر توقف! لا تغدر بي! لا تغدر بي!
وأسمع صراخهم دون أن أتمكن من فعل شيء، يهوي القارب كورقة خريف أمام الريح!
لا أعلم إن كانت ابنتي الرضيعة جائعة يوم شربت حتى الموت الماء المالح!
لا أعلم كيف افترس البحر صغاري وأخذ مني زوجتي؟
ولماذا بقيت حيًا بعد أن عجزت يداي عن إنقاذهم وماتوا أمام عيني واحدًا.. واحدًا.. قمرًا.. قمرًا!
هل تعلم ما السخرية؟
قبل أن يصعد القارب قال لي ابني أنه عطشان، ولم يكن معي ماء!
هل تعلم ما القهر؟
القهر أن تبقى حيًا...
"وشوهد الرجل يدخل البحر غاضبًا بثيابه الممزقة، يهجم على البحر، وفي عينيه محيطات دموع، وفي قلبه كل ملح العالم وعلى جيناته شيفرة ثلاثية ستلاحق سلالته لعنة لا تزول لآخر الدهر، اسمها القهر!".
اقرأ/ي أيضًا: