شهدت سوريا خلال الفترة الأخيرة تطورات فاقمت حالة التشابك وتضارب المصالح التي ميزت العلاقات بين جميع اللاعبين على الساحة السورية، إلا أن ذلك التضارب بلغ نِصَابًا جديدًا خلال الأسابيع الأخيرة مع إسقاط القوات الجوية التركية لطائرة روسية عسكرية إثر مزاعم باختراقها للمجال الجوي التركي. أدى ذلك إلى وضع الولايات المتحدة في موقف حرج إبان محاولتها تقديم موقف متوازن بين مصالحها مع روسيا، المنطوية على محاولة التوصل لمخرج بصدد المأزق السوري، ودعم حليفتها في حلف الناتو، واللاعبة الإقليمية القوية، تركيا، وحقها في الدفاع عن سيادة أراضيها. كما قد يؤدي فشل واشنطن في دعم رواية أنقرة إلى المخاطرة بتنفير حليفة أمريكية هامة.
أبرزت التصريحات الاسترضائية لأوباما الخيط الرفيع الذي يحاول البيت الأبيض الخطو عليه، مع بحثه عن سبل لخفض التوترات المتصاعدة بين أنقرة وموسكو
نشرت مجلة "فورين بوليسي" يوم الثلاثين من نوفمبر، لكاتبها جون هيودسن، مقالًا حول الموقف الحرج الذي وجدت الخارجية الأمريكية نفسها فيه، يذكر المقال تصريح وزارة الخارجية الأمريكية يوم الاثنين بأن الطائرة الروسية التي أسقطت من قبل تركيا قد انتهكت المجال الجوي التركي، ما مثل دعمًا محتملًا لحليفة واشنطن في الناتو وسط الاضطرابات المتزايدة الحدة بينها وبين موسكو. إلا أن الإدارة لم تشر إلى أن إسقاط أنقرة للطائرة كان مبررًا، إنه رهان دبلوماسي حذر يهدف إلى تجنب إغضاب موسكو وأنقرة ويؤدي، بشكل محتمل، إلى زيادة الطين بلة.
أبرزت التصريحات الاسترضائية الخيط الرفيع الذي يحاول البيت الأبيض الخطو عليه مع بحثه عن سبل لخفض التوترات المتصاعدة بين أنقرة وموسكو، حيث بدأتا تبادل الضربات الكلامية منذ إسقاط الطائرة الروسية بواسطة طائرتي إف-16 تركيتين.
بالنسبة للآن، تحاول الولايات المتحدة الحفاظ على مسافة معينة مع التأكيد على أن، حسبما أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية إليزابيث ترودو يوم الاثنين، "الأمر الأهم الذي نشدد عليه الآن هو عدم التصعيد والحوار". جاءت التصريحات بعد اجتماع جرى صباح الاثنين بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين، أبلغ فيه الرئيس الأمريكي "أسفه" لموت الطيار الروسي، ثم جندي البحرية الروسي أثناء تنفيذه لمهمة إنقاذ لاحقًا.
"يسير أوباما على خيط دقيق عبر تقديمه للدعم الكلامي لقرار حليفته في الناتو، تركيا، بالتصرف للدفاع عن النفس، ولكن على نحو مماثل، يسعى لتجنب عرقلة ذلك الحادث للزخم الدبلوماسي بشأن سوريا"، حسبما علق أندرو براون، مدير دراسات الشرق الأوسط بمركز المصلحة الوطنية.
رغم استمرار رفض روسيا لإنهاء دعمها للرئيس السوري بشار الأسد في الإخلال بالجهود الرامية إلى تحقيق نهاية للنزاع المميت، تحاول القوى العالمية أن تتجاوز هذا الخلاف لمراكمة زخم يدعم اتفاق لوقف إطلاق النار في سوريا. فبعد الهجمات المميتة في باريس، وقعت الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، إيران، السعودية، وفرنسا بيانًا في فيينا يدعم تحديد الأول من يناير موعدًا نهائيًا لبدء المفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة. إلا أن ذلك الاتفاق لم يلق بعد قبولًا لدى المتمردين السوريين أو نظام الأسد.
حُفزت الدفعة الدبلوماسية الجديدة، جزئيًا، بفعل الهجمات الإرهابية التي نفذها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في باريس وأودت بأرواح مائة وتسعة وعشرين شخصًا يوم الثالث عشر من نوفمبر، كما عُززت بفعل إسقاط طائرة الركاب الروسية على شبه جزيرة سيناء المصرية، وهو الهجوم الذي تبنى التنظيم مسؤوليته أيضًا. وعلى الجانب الآخر، اعتقدت وكالات الاستخبارات الغربية طويلًا أن التنظيم يركز على الإبقاء على سيطرته على أراضي الخلافة، التي أعلن إقامتها، على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، ولم يكن يسعى إلى تنفيذ هجمات إرهابية داخل بلاد أخرى. إلا أن هجمتي باريس وسيناء قدمتا دليلًا عنيفًا على أن التنظيم يبدو بشكل أكبر كتنظيم القاعدة، ما أعاد اسمه إلى الأذهان الغربية.
ومع ذلك، تهدد التوترات الأخيرة بعرقلة تلك الروح التعاونية. حيث يرفض الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الاعتذار عن الحادثة، وعلقت روسيا اتفاقها الخاص بالدخول دون تأشيرة مع تركيا، ووعدت بطرح عقوبات اقتصادية واسعة النطاق. كما عززت دفاعاتها المضادة للطائرات في سوريا عبر نشر سفينتها "موسكوفا" نحو الساحل وأرسلت النظام بعيد المدى "إس-400" إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية. علاوة على ذلك، أعلنت روسيا عن تزويدها لطائراتها المقاتلة من طراز "سو-34" المشاركة في سوريا بصواريخ جو-جو للمرة الأولى.
يعلق بعض المراقبين بأن رفض إدارة أوباما لتقديم الدعم الكامل لأفعال تركيا، وإدانتها لروسيا، سيؤتيان بنتائج عكسية على علاقتها بكلا البلدين.
"قد تخسر واشنطن احترام أنقرة وموسكو لها في ذات الوقت"، حسبما صرح أندرو تابلر، خبير الشؤون السورية بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، لمجلة فورين بوليسي. "كما يحمل الأمر خطر أن يرى الروس أن أوباما سوف يقبل بالسلام في سوريا مقابل أي سعر".
عبر دعم تركيا بشكل هامشي في معركتها مع روسيا، تقدم الولايات المتحدة إلى أردوغان إشارة مفادها أنه لا يمكنه اعتبار الدعم الأمريكي أمرًا مضمونًا
بينما يقول آخرون إن الإدارة ليس أمامها خيار سوى محاولة خفض حدة التوترات بين الجانبين. حيث يضيق تابلر: "بينما قد يُرى أوباما مقدِمًا لما هو أقل من الدعم القوى لحليفته بالناتو، مع تحليق الطائرات الأمريكية والروسية في نفس المجال الجوي، تبدو المخاطر مرتفعة للغاية في حال ترك ذلك الخلاف بين أردوغان وبوتين حول سوريا يعرقل التعاون الأمريكي الروسي".
قد يتمثل أحد العوامل الأخرى التي دفعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ ذلك الموقف في أن تركيا ليست متعاونة بشكل كامل بصدد الجهود المضادة لداعش.
تباطأت أنقرة في إغلاقها لما يمتد إلى ستين ميلًا من حدودها مع سوريا، والتي تعتقد الولايات المتحدة أنها تُستخدم من قبل داعش لنقل المقاتلين الأجانب من وإلى ساحة القتال. وأوردت صحيفة "وال ستريت جورنال"، يوم السابع والعشرين من نوفمبر، أن الولايات المتحدة تضغط على تركيا لنشر الآلاف من قواتها بطول الحدود، وهي جهود قد تتطلب نشر ما يصل إلى ثلاثين ألف فرد من الجيش التركي. وعلى صعيد آخر، هاجمت تركيا وقصفت القوات الكردية في سوريا إلى حد أثار استياء المسؤولين الأمريكيين. وفي ضوء السجل التركي المتقطع، يقول البعض إن أفضل خيار هو تقديم الدعم المدروس، فقط، إلى تركيا.
"عبر دعم تركيا بشكل هامشي فقط في معركتها مع روسيا، تقدم الولايات المتحدة إلى أردوغان إشارة مفادها أنه لا يمكنه اعتبار الدعم الأمريكي أمرًا مفروغًا منه"، حسبما علق جوشوا لاندس، الخبير بالشأن السوري بجامعة أوكلاهوما، لمجلة فورين بوليسي.
اقرأ أيضًا: