سرعان ما أدركنا أن محاولاتنا للهرب كانت عبثية. كنا نجلس في مقهى صغير، وبعد أحاديث متوترة متقافزة، استسلمنا وشرعنا في أحاديث الحرب. رويتُ له قصة عن بلاد أخرى كنت قد قرأتها، وروى لي قصة عن بلادنا كان قد عاشها.
قلت:
في قصة قصيرة عن ألمانيا بُعيد الحرب العالمية الثانية، تصحو الزوجة على صوت ارتطام في مطبخها. ترتجل سلاحًا ما وتنسل خارج غرفة النوم، وعندما تشعل الضوء تفاجأ بزوجها الذي وقف كغزال مذعور داهمته أضواء سيارة مبهرة. كان فتات الخبز لا يزال عالقًا في شفتيه وعلى حواف المائدة. متلعثمًا يعتذر عن إزعاجها زاعمًا أنه جاء ليطمئن بعد أن سمع صوتًا مريبًا. وسط ذهولها تنتزع ابتسامة تعاطف وتهز رأسها موحية أنها تصدقه. وفي السرير وبينما غط هو في النوم جلست هي لتبكي حتى الصباح، فطيلة الثلاثين سنة، هي عمر زواجهما، لم يخطر في بالها قط أن زوجها المهيب الصلب يمكن أن تجره معدته إلى هذه المهانة.
للحرب، كل حرب، أهوالها: مدن مدمرة، مجازر، محارق.. ولكن الجوع يبقى مسألة أخرى، ذلك أن أهوال الحرب تحطم القلوب وربما العقول، لكن الفقر يحطم الكبرياء، وهو أمر لا يغفره الناس للحياة.. ولا لأنفسهم
في اليوم التالي، وعندما حان موعد الوجبة الوحيدة، أعطته ثلاث قطع من الخبز واكتفت بواحدة، مقسمة أنها لا تحس بالجوع، كان يعرف أنها تكذب وكانت تعرف أنه يعرف، ولكن كان لا بد من هذا التواطؤ كي يحفظ الزوج الجائع ماء وجهه ويخفف من شعوره بالذنب إذ كان يأكل خبز شريكته.
جاء دور الصديق في المقهى فروى قائلًا:
كانت جارة لي طيلة السنة الثالثة من الحرب، حربنا نحن، أرملة ثلاثينية مات زوجها في معركة لم يخضها، برصاصة لا تعرفه، مخلفًا لها ثلاثة أبناء وديونًا مستحيلة التسديد.
كانت تعمل في خدمة البيوت، فتخرج عند مطلع الفجر لتعود قبيل هبوط الليل، حاملة ربطة خبز وكيسًا صغيرًا تتناوب عليه أقراص فلافل وحفنات زيتون وقطع جبن. كان غم بلا حدود يسكن عينيها، وكانت ثياب أولادها وأجسادهم عابقة على الدوام برائحة الفقر. ومع ذلك فقد امتلكت كبرياء عنيدًا جعلها تدخل في متاهة من الأكاذيب الصغيرة الساذجة، وترتجل قصصًا لا يصدقها أحد عن حوالات وهمية وأقارب لا وجود لهم.. كل ذلك كي تعفي نفسها من قبول أي مساعدة، بل أي نظرة إشفاق..
في أحد الصباحات، استفقتُ على أصوات في بيت جارتي. كان الطفل يبكي ويصرخ في أمه مذكرًا إياها بوعدها: أن تسلق له بيضة يوم الجمعة واليوم هو يوم الجمعة، وكانت هي تحلف له أنها، بعد يومين أو ثلاثة، ستحضر له صحنًا كاملًا من البيض، ولكن الطفل غير المقتنع راح يضرب الجدار بقبضتيه محولًا بكاءه إلى عويل، إلى أن هدأته أخيرًا بجملة غير مسموعة بدا مفعولها سحريًا..
عندما سمعتُ صوت بابها يفتح وخطواتها تقترب، تمنيتُ أن لا تطرق بابي، أو على الأقل أن تجترح هذه المرة كذبة جديرة بالتصديق وكفيلة بحماية كبريائها.. أُقسم أن طرقاتها على بابي كانت أشبه بضربات مطرقة تحطم قلبي.
للحرب، كل حرب، أهوالها: مدن مدمرة، مجازر، محارق.. ولكن الجوع يبقى مسألة أخرى، ذلك أن أهوال الحرب تحطم القلوب وربما العقول، لكن الفقر يحطم الكبرياء، وهو أمر لا يغفره الناس للحياة.. ولا لأنفسهم.