تنبع أهمية سوق عكاظ وغيره في كونه مجمعًا للعديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في المجتمع العربي قبل الإسلام، وما وصل إلينا من توثيق لما كان يجري فيها يعكس جوانب هامة للمشهد الثقافي والإنساني والاقتصادي والاجتماعي عمومًا، وفي هذا المقال طرح مختصر حول سوق عكاظ وسبب تسميته وأبرز المعلومات عنه وعن الأنشطة الدائرة فيه حسب كتاب سوق عكاظ ومواسم الحج لعرفان محمد حمّور الصادر عن مؤسسة الرحاب الحديثة.
لفظ عكاظ مأخوذ من الجذر اللغوي (عكظ) أي عرك، من العراك، وفيه دلالة على ما كان يجري فيه من عراك معنوي وفرض للهيمنة من القبائل ضد بعضها، فيتعاركون بالشعر والتجارة وإبراز المكانة.
وهذا السوق الحافل، كان يقام في أرض واسعة تسمى الأُثيداء في أعلى نجد بين وادي نخلة والطائف، كانت القبائل تحط رحالها فيها وتنصب خيامها ويعرض تجارها بضائعهم فيها، وينادى في السوق لعقد مجالس القضاء وحل الخلافات، وتنصب فيه منابر الشعر والشعراء من القبائل ليلقي كل منهم ما جادت به قريحته، ويعرض التجار بضائعهم وما جلبوه من رحلاتهم أمام الناس. وحتى أن السوق كان موسمًا للتبشير الديني.
قريش رغم مكانتها بين القبائل لم تملك الحق -ولا غيرها من القبائل- في إمامة السوق، ولا تولي الحكم والقضاء
معلومات عن سوق عكاظ
كان سوق عكاظ -غالبًا- يُعقد في الأشهر الحرم من كل عام، من مطلع شهر ذي القعدة حتى الـ20 منه، وهو من أهم المواسم لدى قبائل العرب، وقد اتخذت قبيلة هوازن (القائمة على شأن السوق وعَقْدِه) من صنم "جهار" شعارًا للسوق، وفيما يأتي بعض المعلومات عن سوق عكاظ:
-
السوق كان موسمًا لمجالس القضاء
كان سادة العرب يعقدون مجالس لفض النزاعات بين القبائل وحل المظالم بين أهلها، سواء كانت الشكاوى فيما يتعلق بأمور التجارة كالديون والرهون، أو المفاخرة أو غيرها من قضايا الجنايات والديّات ، وهذه المجالس يقضي فيها أكابر القوم من بني تميم وعادة ما يتولى الحكم قاضيان اثنان.
-
ليس لقريش مكان للحل والعقد في السوق
سوق عكاظ يقام في أرض نجد حيث تسودها قبيلة هوازن، وسيد هوازن يملك الحق المطلق في حرمان أي قبيلة من المشاركة في السوق، وليس هذا فحسب، فقريش رغم مكانتها بين القبائل لم تملك الحق -ولا غيرها من القبائل- في إمامة السوق، ولا تولي الحكم والقضاء، واقتصر وجودهم على الجانبين الثقافي والتجاري فقط.
-
عكاظ موسم لكل بضاعة جديدة
كانت التجارة قديمًا على غير حالها الآن، فلم تكن البضائع وأحدث صيحات الموضة معروضة أمام الناس ليل نهار، يشترون منها ما يشتهون بضغطة زر، بل كانت مواسم الأسواق هي مهرجانات التسوق وعرض البضائع بمألوفها وغريبها، وكانت هناك أسواق متخصصة لكل بضاعة، فهناك سوق الإبل والأنعام، وهناك سوق البهارات والعطور والبخور، والخضاب والزعفران، وهناك سوق الألبسة والأقمشة من الحرير والكتّان والقطن وغيرها، وهناك تعرض الحليّ من أساور وقلائد والدر والعقيق، عدا عن سوق الجلود والبُسط من مختلف الأشعار و الأوبار والأصواف وغيرها من الأثاث. وسوق التمور والعسل والتوابل والسمك المجفف، ولا ننسى سوق الأسلحة من السيوف والرماح والنبال…، وغيرها الكثير مما يحتاج إليه أي مجتمع بشري من الأواني الفخارية أو النحاسية، أو القوارير ومشغولات الزجاج. كما أن سوق الرقيق والعبيد كان قائمًا كما كان الحال وقتها.
-
لا ضرائب في موسم سوق عكاظ
كانت التجارة نشاطًا يدر الدخل على القبائل وتجارها، وكان يُفرض على القوافل دفع المكوس "الضرائب" مقابل حماية القبائل وتأمين وصولها سالمة في الأراضي التي تعبرها، وهذه المكوس تلغى وقت موسم عكاظ لأنه يقام في الأشهر الحرم، حيث لا قتال ولا تنازع ولا سطو.
توجه رسول الله إلى عكاظ يدعو القبائل إلى التوحيد وينشر الرسالة ويقيم الأحلاف. وكان يؤمّ المواسم الأخرى مِجنّة وذي المجاز.
-
سوق عكاظ موسم ديني
كان سوق عكاظ قبل الأسلام هدفًا للرهبان والأحبار يفدون إليه ليعظوا الناس ويدعوهم إلى الزهد والتحلي بالفضائل وغيرها من أمور الدين، ومن أشهر من أمَّ السوق واعظًا ورقة بن نوفل الحبر المسيحي ابن عم السيدة خديجة، وقسّ بن ساعدة الإيادي خطيب العرب وإمامها وحكيمها وحليمها وشاعرها حسبما ذكر الأصفهاني من صفته.
ولما جاء الإسلام، توجه رسول الله إلى السوق في مواسم كثيرة يدعو القبائل إلى التوحيد وينشر الرسالة ويقيم الأحلاف. وكان يؤمّ المواسم الأخرى مِجنّة وذي المجاز.
-
سوق عكاظ قبلة العاشقين
يوم أن كان للحب سهام يلقيها في قلوب العاشقين، ووقت أن كان للسهر والسهاد والشوق معنى، ووقت أن كان الشوق صفة المتحابين واللوعة للفراق كانت الكرب الأعظم على القلوب، كان للحب -ككل شيء لم تفسده الكثرة والإتاحة- طعم. فكان هذا السوق موسمًا يحجّ إليه المتحابون بشوق لرؤية محبيهم ويوفوا بعهودهم على حفظ المودة رغم البعد.
من أشهر الشعراء الذين وصلت إلينا أشعراهم وتحفهم البيانية النابغة الذبياني
-
منبر الشعراء والبُلغاء
كان للشعراء أيضًا سوقهم، الذي يبيعون فيه بضاعة قوامها البيان والبلاغة وحسن القول والتفاخر، فكان يقف من كل قبيلة أشعر شعرائها وأعتى خطبائها، ليتناشدوا الشعر ويتعالى بعضهم على بعض بالنسب وشرف الحسب. ومن أشهر الشعراء الذين وصلت إلينا أشعراهم وتحفهم البيانية النابغة الذبياني وكان من محكّمي الشعر، والخنساء وحسان بن ثابت، بالإضافة إلى الأعشى وشعراء المعلقات الأخرين.
كما كان من عادة العرب في مجالس السوق أن يتداولوا أخبار المعمرين من الناس وحِكمهم، وكانوا يتعاظمون في الأحزان؛ بمعنى التفاخر بمآثر من ماتوا من أشراف القوم ويتنافسون فيمن كان فقده مصيبة أشد على قومه من غيرها. ومثال ذلك ما كانت الخنساء تلقيه من شعر ترثي أخاها صخرًا، ومن بعدها هند بنت عتبة التي قالت أنا أعظم من الخنساء مصيبة، وذلك لفقدها أبيها وعمها في غزوة بدر.
-
عكاظ موسم العرافة وقراءة الطالع
كان مما يميز سوق عكاظ أن كل صاحب بضاعة يجد فيه موطئ قدم، ويجد من يقبل عليه ليشتري، حتى لو كانت بضاعته لا تزيد عن كونها ترهات كلامية تجد من يصدقها، فكان العرافون وقارؤوا الطالع والبخت ينصبون خيامهم ليتنبؤوا بمستقبل من يأتي إليهم من خلال التفرس في الوجوه وملامحها، أو رسم الخطوط على الأرض لقراءة ما تنبئ به من أخبار الغيب.
-
عكاظ موسم للمجون
ككل المواسم والمهرجانات، كانت تقام في عكاظ خيم بمثابة حانات منصوب عليها رايات خاصة، تقوم عليها بائعات الهوى من الجواري والقيان، يغنين ويعزفن ويبعن الخمر، وكنّ يبلسن لباسًا خاصًا يميزهن عن الحرائر.
-
السوق محجّ للصعاليك واللصوص
السوق يعقد في الأشهر الحرم، وهكذا يكون اللصوص والصعاليك في مأمن من فرسان القبائل، لا يقبلون على السوق ليسرقوا لاحترام الأشهر الحرم، ولكن ليحظوا بمتعة المشى والتبتختر بين الأسواق دون أن يطردهم أحد المستفيدين من الوضع القائم.
-
موسم للرياضات والمبارزة
سواء كانت المصارعة بالجسد أم المقارعة بالسيوف، كان عكاظ فرصة لكل فارس لأن يعرض مهاراته ويختال بما أوتي من حسن الفروسية وزمامها، ومن الرياضات القائمة تبارز السيوف والمصارعة البدنية وسباقات الخيل ورمي النبل.
كانت هذه بعض المعلومات التي تُظهر أهمية سوق عكاظ ودوره الحضاري في كشف جوانب أساسية من حياة العرب في وقته، والمعلوم أن السوق ظل قائمًا بعد الإسلام، لأنه كما قلنا قد زاره النبي عليه السلام لينشر الدعوة بين القبائل، ولكن مع تضافر عدة أسباب ضَعُف الإقبال على السوق واندثر، ومن أسباب ذلك التغير الذي طرأ في حياة العرب بعد إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة، ولاحقًا انشغال القبائل بالفتوحات، وفيما بعد عندما صارت طائفة من الخوارج تسطوا على التجار وتنهب قوافلهم وتسلبها، فتخلى الناس عن سوق عكاظ ومن بعده بمدة هجروا سوق مِجنة وذي المجاز، واتجهوا إلى أسواق عرفة ومِنى ومكة وأنعشوا حركة التجارة فيها.