في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الشركات في السوق العالمي، تأتي إدارة الجودة الشاملة كاستراتيجية حاسمة لتعزيز الكفاءة وضمان التميز. ويتطلع هذا المفهوم إلى إرساء أسس متينة للجودة تتجاوز مجرد الالتزام بالمعايير القياسية، ليشمل تحسين العمليات الداخلية وتحقيق أعلى درجات الرضا لدى العملاء. حيث إن نشأة إدارة الجودة الشاملة، المستمدة من أفكار روادها، تعكس رؤية شاملة للجودة كمكون أساسي في بناء الاستراتيجيات التنظيمية والتنافسية. هذه المقدمة تستعرض ملامح الرحلة التاريخية لإدارة الجودة الشاملة وتعريفاتها المتعددة، مؤكدة على أهميتها كمحور رئيسي للنجاح في البيئة التجارية الحديثة.
الهدف من جودة التصميم هو ضمان أن المنتجات أو الخدمات المقدمة تفي بمتطلبات العملاء بشكل فعال منذ البداية
ما هي إدارة الجودة الشاملة؟
ترجع نشأة إدارة الجودة إلى ثلاثة من علماء الرياضيات في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهـم والتر شوهارت (Walter Shewhart)، وإدوارد ديمنج (Edwards Deming)، وجوزيف جوران (Josegh Juran).
أوضح جوران في كتابه المعنون بكتيب جوران للجودة أن هناك عدة تعريفات للجودة؛ وذكر أن الجودة المرتفعة تؤدي دائمًا إلى تخفيض التكاليف نتيجة التقليل من التالف والفاقد والمعيب. ويعرف المعهد الأمريكي للمعايير (American National Standards Institute) إدارة الجودة الشاملة بأنها "جملة السمات والخصائص للمنتج أو الخدمة التي تجعله قادراً على الوفاء باحتياجات معينة". فيما عرفتها المنظمة الدولية للمعايير في جنيف سويسرا (International Organization for Standardization) كما جاء في المواصفة القياسية الآيزو 2000 (آيزو 2000: 2008) بأنها "هي الدرجة التي تلبي بها مجموعة من الخصائص الكامنة المتطلبات"، ويقصد بالكامنة أنها موجودة في شيء ما، كخاصية دائمة. ولفظ الجودة يمكن أن يستخدم معه كلمات؛ رديئة، وجيدة، وممتازة.
وعرفها ديمنج، الأب الروحي للجودة، بأنها تحقيق احتياجات وتوقعات العميل حاضرًا ومستقبلاً، فيما عرفها كروسبي بأنها أداء العمل الصحيح بشكل صحيح من المرة الأولى وكل مرة، فيما عرفها جوران بأنها ملاءمة المنتج أو الخدمة للاستخدام.
كيف نحقق إدارة الجودة الشاملة؟
يمكن أن تتحقق الجودة الشاملة من خلال ثلاث زوايا؛ يمكن توضيحها كالتالي:
-
جودة التصميم
تعتبر المرحلة الأولى في تحقيق الجودة الشاملة، وهي تركز على المواصفات والمعايير التي يتم تحديدها مسبقًا عند تصميم المنتج أو الخدمة. وتشمل هذه المرحلة البحث والتطوير، واختيار المواد، وتحديد الميزات التي يجب أن يتضمنها المنتج لتلبية احتياجات وتوقعات العملاء. والهدف من جودة التصميم هو ضمان أن المنتجات أو الخدمات المقدمة تفي بمتطلبات العملاء بشكل فعال منذ البداية، مما يقلل من الحاجة إلى التعديلات والتحسينات المستقبلية.
-
جودة الإنتاج
تعنى بالمواصفات والمعايير التي يتم تحقيقها أثناء العملية الإنتاجية نفسها. وتشمل هذه المرحلة كل الجهود المبذولة لضمان أن العمليات الإنتاجية تعمل بكفاءة وفاعلية، وأن المنتجات تُصنع وفقًا لمعايير الجودة المحددة في مرحلة التصميم. وتتضمن مراقبة الجودة والفحص الدوري للمنتجات، وتحليل العمليات للتعرف على أي انحرافات والعمل على تصحيحها فورًا. والهدف هو ضمان أن كل وحدة من المنتجات تلبي أو تتجاوز التوقعات.
-
جودة الأداء
هي الجودة التي يلمسها المستهلك النهائي عند استخدام المنتج أو الاستفادة من الخدمة. وتعتبر هذه المرحلة من الجودة مؤشرًا على مدى نجاح المنظمة في تحقيق أهداف الجودة التي تم تحديدها في مراحل التصميم والإنتاج. وتشمل جودة الأداء مدى موثوقية المنتج، وعمره الافتراضي، وسهولة الاستخدام، ومدى تلبيته للتوقعات والمتطلبات الوظيفية. والهدف هو ضمان رضا العملاء وولائهم، مما يؤدي إلى تحقيق مزيد من النجاح التجاري والاستدامة للمنظمة.
معايير إدارة الجودة الشاملة
تقدم معايير إدارة الجودة الشاملة إطارًا لكيفية إدارة الأعمال لأنشطتها الرئيسية. وهي تحدد طريقة متفق عليها للقيام بشيء ما، سواء كان صنع منتج، أو إدارة عملية، أو تقديم خدمة، وذلك من أجل ضبط الجودة وضمانها:
-
ما هي معايير الجودة؟
معايير إدارة الجودة هي تفاصيل المتطلبات، والمواصفات، والإرشادات، والخصائص التي يجب أن تلبيها المنتجات والخدمات والعمليات بشكل مستمر؛ وذلك من أجل ضمان الجودة وتطابقها للتوقعات، وأنها ملائمة للغرض المقصود، وأنها تلبي احتياجات مستخدميها. والمعايير هي عنصر أساسي في أنظمة إدارة الجودة.
-
ما هو غرض معايير الجودة؟
تُستخدم معايير إدارة الجودة من قِبل الشركات للتأكد من جودة وسلامة منتجاتها وخدماتها، ولضمان الامتثال للتنظيمات القانونية بتكاليف مُخفضة، إضافةً إلى تعزيز السيطرة على العمليات الداخلية ودعم تحقيق الأهداف البيئية. والتزام الشركات بهذه المعايير يُمكنها من تعزيز أرباحها، وتقليل التكاليف، وتحسين مستوى التنافسية في السوق، بالإضافة إلى فتح أبواب الأسواق العالمية أمامها وكسب ولاء العملاء بشكل أكبر.
-
معيار ISO 9000
توجد مئات المعايير والمواصفات الدولية لإدارة الجودة الشاملة في كافة التخصصات، مثل الإدارة والتعليم والصحة والمصانع وغيرها. ويعتبر معيار ISO 9000 من أهم معايير إدارة الجود الشاملة.
تقدم منظمة الأيزو الحل للمؤسسات التي تبحث عن طرق لرفع مستوى جودة منتجاتها وخدماتها وتلبية تطلعات عملائها بشكل دائم، وذلك من خلال عائلة معايير ISO 9000. حيث تغطي هذه المجموعة من المعايير مختلف المجالات المتعلقة بإدارة الجودة وتضم بعضًا من أهم المعايير المعروفة لدى الأيزو.
تشمل مجموعة معايير ISO 9000 لإدارة الجودة المعيار العالمي الأكثر شهرة لنظم إدارة الجودة، ISO 9001، إلى جانب مجموعة من المعايير المساندة في مجال إدارة الجودة، التي أصدرتها ISO/TC 176 واللجان الفرعية التابعة لها.
وتعرّف الأيزو سبعة مبادئ أساسية لإدارة الجودة ضمن معيار ISO 9000، والذي يبسط المفاهيم والمصطلحات الجوهرية لإدارة الجودة. وتعتمد هذه المبادئ على التوجه القوي نحو إرضاء العميل، وضرورة تفاعل ودعم الإدارة العليا بشكل فعال، وتبني نهج يركز على العمليات، بالإضافة إلى الالتزام بالتطوير والتحسين المستمر.
فوائد تطبيق إدارة الجودة الشاملة
تمثل إدارة الجودة الشاملة فلسفة متكاملة في بيئة العمل، ومن أهم فوائد تطبيقها ما يلي:
- تحسين الإنتاجية وتقليل التكاليف، وذلك من خلال الاستخدام الأمثل للموارد وتحسين بيئة العمل.
- زيادة رضا العملاء والعاملين عبر تقليل الأخطاء والوقت اللازم للإنتاج، وتأسيس نظام معلوماتي دقيق.
- تعزيز الولاء والكفاءة بين العاملين، والتجديد والتحسين المستمرين، مما يساهم في خفض معدلات ترك العمل.
- زيادة القدرة التنافسية للمنظمة من خلال تقوية الحصة السوقية وإيجاد ميزة تنافسية مستدامة، بالإضافة إلى تطوير علاقات العمل بين الإدارة والعاملين.
- الحد من الشكاوى والتعامل السريع معها، وتخفيض تكاليف الاختبار من خلال تقليل عمليات التفتيش.
- كسب رضا الزبون والمجتمع المحلي، وزيادة الولاء الوظيفي من خلال توفير حوافز للعاملين، والقدرة على اكتشاف الأخطاء قبل وقوعها وتقديم حلول فعالة للمشاكل تساعد في تحسين الجودة.
مما لا شك فيه أن إدارة الجودة الشاملة تشكل ركيزة أساسية لأي منظمة تسعى للتميز والنجاح في عالم الأعمال المعاصر. ومن خلال تطبيق مبادئها ومعاييرها، تستطيع الشركات ليس فقط تحقيق مزايا تنافسية ولكن أيضًا بناء علاقات متينة مع عملائها وعامليها. وإن الالتزام بمبادئ الجودة الشاملة يؤدي إلى إحداث تحول إيجابي في الثقافة التنظيمية، مما ينعكس بشكل مباشر على الأداء العام والاستدامة. وفي نهاية المطاف، يتضح أن إدارة الجودة الشاملة ليست مجرد استراتيجية إدارية بل هي منهج حياة يساهم في تحقيق التميز والابتكار المستمر.