22-أكتوبر-2023
Israeli army spokesman Rear Admiral Daniel Hagari

(Getty) الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال

في العام 2012، وبعد انطلاق عملية "عمود الدفاع" أو "عمود السحاب" بالتسمية العبرية على قطاع غزّة، والتي راح ضحيتها مئات الشهداء والجرحى، نشرت هآرتز العبرية مقالًا للصحفي الإسرائيلي أنشيل بفيفر قال في مقدمته إن تلك الحرب لم تستهدف البنى التحتية لحماس في قطاع غزّة، بل كانت أيضًا محاولة من أجل استنقاذ سمعة إسرائيل واستعادة شيء من السيطرة على صورة الكيان الاستعماري في العالم، بعد سلسلة من الإخفاقات على مدار السنوات الماضية.

يمكن اليوم تكرار تلك الفقرة حرفيًا (مع استبدال اسم العملية، والتنويه المؤسف بأنّ الحرب هذه المرّة قد وصلت مستويات خطيرة من الإبادة، ليست جديدة بالمرّة في تاريخ فلسطين). فقد قتلت إسرائيل زهاء 5000 فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء، وألقت على قطاع غزّة من القذائف والصواريخ في أول أسبوع من الحرب ما كانت تلقيه آلة الحرب الأمريكية على أفغانستان في عام كامل، وتستعد اليوم لاجتياح برّي ضارٍ له بتفويض غربيّ مطلق، بهدف تركيع القطاع وتهجير أهله وتقليصه إلى مساحة أشدّ ضيقًا.

الترا فلسطين

ثمة اتفاق واسع على أن الوضع الحاصل هو نتيجة حتميّة لعقود من البطش المتواصل بالفلسطينيين وتقويض حقهم في تقرير مصيرهم، و16 عامًا من الحصار، والإصرار على تطبيعه وتعويد الفلسطينيين والعالم عليه، رغم وحشيّته ومخالفته لكل القوانين والأعراف الدولية.  فغزّة أكبر سجن مفتوح، والضفة الغربية سجن أيضًا لملايين الفلسطينيين الآخرين الذي يعيشون تحت تعسف الاحتلال وبطش المستوطنين وقهر التنسيق الأمني، في "جرائم إسرائيلية متواصلة بحق الشعب الفلسطيني وتنكر الاحتلال للقوانين الدولية" بتعبير محمد الضيف، وهي عبارة نكاد نجدها وتنويعات عليها في كافة التوصيفات الموضوعية للواقع كما يختبره الفلسطينيون اليوم، كتلك الصادرة عن "العفو الدولية" و"هيومان رايتس ووتش"، وتقرّ به حتى مؤسسات حقوقيّة من داخل "إسرائيل" نفسها.

قائمة طويلة من الجرائم اليوميّة "العاديّة" التي تقع على الفلسطيني في كلّ أماكن وجوده، شكّلت في مجموعها حالة خبريّة تنال اهتمامًا متواصلًا في وسائل الإعلام، بما فيها الغربيّة، وعلى نحو شكل مع الوقت تهديدًا لسمعة دولة الاحتلال، خاصة مع تفاقم الأزمات الداخلية في إسرائيل، إبّان الصعود الطبيعي لقوى أقصى اليمين فيها، ودخولها التركيبة الحكومية في تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي، لتشكّل "أشدّ الحكومات تطرّفًا في تاريخ إسرائيل" بحسب تعبير نيويورك تايمز. وضعت الحكومة الجديدة على رأس أولوياتها تغيير شكل النظام السياسي في إسرائيل، والدفع بتعديلات جوهرية تمسّ المحكمة وتضعف القضاء، فاشتعلت احتجاجات واسعة داخل إسرائيل وأدت إلى انقسام عريض فيه. (للمزيد حول أزمة التعديلات القضائية في إسرائيل، اقرأ هنا).

تناول الإعلام الأمريكي كل ذلك بشكل مكثّف، وسلّط الضوء أكثر على انتهاكات الاحتلال وجرائم المستوطنين وقصص الفلسطينيين وهو ما مثّل في نظر إسرائيل كارثة "علاقات عامة" لها، وملمّة ذريعة في صورتها التي تنشد التشبّث الدائم بها. فبحسب "جيروزالم بوست"، فإن من بين 148 مقالًا نشرته صحيفة نيويورك تايمز حول إسرائيل في الربع الأول من العام الجاري، عرض ثلثا المقالات تحليلًا سلبيًا عن دولة الاحتلال، ينال من صورتها كدولة ديمقراطية ومختبر تقانة وواحة حريّات، في محيط من الاستبداد والتخلّف والهمجيّة. وقد أبدت الصحيفة العبرية قلقها مثلًا من مقالات توماس فريدمان، وهو المخلص الأبدي للصهيونية والمعادي للفلسطينيين، والذي انتقد الحكومة الإسرائيلية من منطلق الخوف على المشروع الصهيوني لا أكثر، عبر سلسلة من المقالات التي تحذّر من الانقلاب على "الديمقراطية" في إسرائيل، والخشية من تحوّلها من "وتدٍ للاستقرار في المنطقة لصالح حليفها الأمريكي، إلى مرجل للفوضى ومصدر للقلق للحكومة الأمريكية". تكرّرت تحذيرات توماس فريدمان، وتناسخ جوهرَ فكرتها عديد من الكتاب الآخرين سواه، ثم تكثّفت في مقال لهيئة التحرير، عن الخطر المحدّق بالديمقراطية في الدولة اليهودية. هذا المقال، بحسب مجلة "ذا نيو ريببلك"، أثار ردّ فعل عنيفًا من نتنياهو، حين انفلت على نحو "ترامبي" بحسب تعبير المجلة، واتهم نيويورك تايمز بشيطنة إسرائيل ومحاولة تقويض الحكومة المنتخبة فيها. ولم ينس نتنياهو كما يمكن أن نتوقّع تذكير الصحيفة-المعروفة بتحيّزها للرواية الإسرائيلية- بتقصيرها في تغطية "الهولوكوست"، وهي تهمة لطالما حضرت في ترسانة الابتزاز الإسرائيلي ضدّ التايمز، ولاسيما بعد صدور كتاب لوريل ليف "مقبرة التايمز: الهولوكوست والصحيفة الأمريكية الأهمّ" عام 2005، وهو وثيقة الإدانة الأبرز ضد نيويورك تايمز فيما يخصّ مقاربتها للمحرقة النازيّة.

ورغم تواضع المقولات التي تضمنتها جلّ تلك المقالات، وملاحظة أنها نابعة من خشية على إسرائيل أكثر من الخشية منها، واستمرار تغاضيها عن جوهر المسألة الفلسطينية باعتبارها قضيّة نضال مشروع ضد احتلال، وليس صراعًا بين طرفين يجمع بينهما أي قدر من التعادل في القوّة أو المسؤولية عن الوضع الراهن، فإنها شكّلت امتدادًا لحالة إعلامية أكثر وعيًا بتجاوزات الاحتلال، أزعجت الإسرائيليين وأرّقتهم، لاسيما وأنّها حالة واسعة، لا تقتصر على النيويورك تايمز، المعروفة أبدًا بمواقفها الجذريّة في دعم إسرائيل، بل تمتدّ إلى عدة صحف مؤثرة أخرى، في الولايات المتحدة وخارجها، كما يظهر صداها في وسائل التواصل الاجتماعي وحسابات عدد متزايد من الناشطين المؤثّرين.

الهاسبارا الإسرائيلية.. محطات من الإخفاق

تعاني الدبلوماسية العامة الإسرائيلية، أو الهاسبارا- ورغم كلّ الزخم المصطنع الذي يحيط بها في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، والاستثمارات الضخمة لتطويرها وعشرات المراكز البحثيّة التي تعمل لصالحها، وارتباطها الإستراتيجي عبر أذرع عدّة بالجيش الإسرائيلي، تعاني من حالة من الإخفاق وضعف الفعالية، وذلك منذ العام 2006 على الأقل.

فبعد إخفاقها العسكري والسياسي في حرب لبنان ذلك العام، ظهر جليًا للمراقبين الفشل الإعلامي النسبيّ لدولة الاحتلال في تصدير روايتها للعالم، ولاسيما مع تحسّن المنظومة الدعائية لحزب الله، وبثها لعملياتها ضدّ الاحتلال على "قناة المنار" ومنصّة يوتيوب، ضمن ما بدا أنّه إستراتيجية إعلامية أكثر ديناميكية وجرأة. في ذلك السياق، وبعد عام على الحرب، صدر تقرير إسرائيلي رسمي في العام 2007، يسلط الضوء على المشاكل الأساسية في الأداء الإعلامي لدولة الاحتلال، على مستوى التخطيط والتنسيق وإدارة الصورة العامة للدولة في الأزمات، ووضعت توصية لتطوير هيئة حكومية جديدة لوضع إستراتيجية دعائيّة وإدارتها وتطبيقها.  

وقد تبع ذلك تأسيس وزارة خاصة في دولة الاحتلال، هي وزارة الشؤون الإستراتيجية والدبلوماسية العامة (وهذه الأخيرة عبارة ملطّفة بديلة عن مصطلح البروباغاندا، ابتكره الأمريكي إدموند غيلون عام 1965، للإشارة إلى أنشطة البروباغاندا الأمريكية بعيدًا عن الإيحاءات السلبية لكلمة بروباغاندا). تبنّت هذه الوزارة، التي جرى حلّها مؤخرًا، إستراتيجيات جديدة ترتكز على مقاربة جديدة للترويج لإسرائيل، والتسويق لها دعائيًا كأنها "منتج" برسم البيع. وقد عبّر عن هذا التوجّه خير تعبير، مسؤول في وزارة الخارجية الإسرائيلية عام 2007، في حوار صحفي، حيث قال إنّه يفضّل رؤية اسم إسرائيل والدعاية لها في أقسام "الستايل والموضة" في الصحف، لا على صفحة الأخبار الأولى.

كان ذلك يعني، بحسب ما يوضح إيلان بابيه في كتاب "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة" (ص320)، ابتعاد حملات العلاقة العامّة الإسرائيلية في الخارج عن التطرّق للصراع من أي جانب، والتركيز على "إعادة توجيه الحوار حول إسرائيل، وتسليط الضوء على جهودها في ميادين الصحة والبيئة والتقنية والثقافة". كما طوّرت الوزارة بحسب ما يوضح بابيه سلسلة من الإيعازات التوجيهية للعاملين فيها والمؤسسات المتعاونة معها، لترك الاعتماد على الحقائق وسرد المعلومات والحجج الأخلاقية، والتركيز على صورة جديدة لإسرائيل، لا تربطها بالعنف والصراع، وجعلها تبدو للعالم وكأنّها "جنّة على الأرض".

انطلاقًا من تلك اللحظة الكاشفة، وبالاعتماد على قدراتها التقنيّة ومواردها وشبكة علاقاتها في العالم، واصلت إسرائيل تطوير معرفتها بالجماهير التي يلزم استهدافها والعناية بمزاجها العام إزاءها، كما وضع الاحتلال آليات معقّدة من أجل مراقبة أي حملات مناهضة لإسرائيل في الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. فبحسب دراسة عن خصائص "الهاسبارا" الإسرائيلية صدرت عام 2020، فإن إسرائيل ركّزت جهودها على "مراقبة الإنترنت"، وذلك للرصد المبكّر لأية أزمة دعائية قد تلحق الضرر بصورتها، والتعامل الفوري معها لو حصلت. وبحسب ذات الدراسة، فإنه وبمجرّد رصد أزمة ما، يجري تفعيل شبكة رقميّة ضخمة من المستخدمين النشطين المرتبطين بجهاز "الهاسبارا" حول العالم، يكتبون منشورات دعائية الطابع تدافع عن إسرائيل، وبأربع لغات على الأقل هي الإنجليزية والإسبانية والروسية والعربية، إضافة إلى العبرية، وذلك بالتزامن مع نشاط وحدة المتحدثين الرسميين باسم الجيش الإسرائيلي، المسؤولة عن كافة عمليات التواصل والتنسيق مع وسائل الإعلام الأجنبية، والحديث لوسائل الإعلام والعامة عن الأنشطة والعمليات العسكرية.

ثم وفي العام 2008، بدأت إسرائيل تختبر عمليًا ترتيباتها الجديدة في "الحرب الرقمية"، وذلك في عملية "الرصاص المصبوب" (حرب الفرقان)، والتي راح ضحيتها 1300 شهيد فلسطيني، حيث كثفت من استخدام الصور الحيّة للعمليات ونشرها على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك في دعاية مضادّة للوقائع التي ينقلها الصحفيون والمدنيون من استهداف آلة الحرب الإسرائيلية للأهداف المدنيّة، وشراء المزيد من الوقت للفتك بالفلسطينيين. وبحسب الدراسة المشار إليها أعلاه، فإن تلك العملية مثّلت نقطة تحوّل في إستراتيجية الهاسبارا، حيث اعتمدت إسرائيل وللمرة الأولى على حملة إعلامية ورقميّة منسقّة ومكثّفة لنشر رسائل محدّدة مصوغة بعناية، وتعميمها في وسائل الإعلام التقليدية، والقنوات الدبلوماسية، وعبر المنظمات والهيئات وجماعات الضغط الصهيونية واليمينية الداعمة لإسرائيل، إضافة إلى شبكات التواصل الاجتماعي واليوتيوب.

رغم ذلك كلّه، انتهت الحرب بخسارة إسرائيلية، لا تقل في فداحتها وعقابيلها السياسية والمادية والدعائية عما نجم عن حرب لبنان عام 2006. فقد أخفقت إسرائيل، بقيادة إيهود أولمرت حينها، في تحقيق الأهداف المعلنة من العملية- توجيه ضربة قاصمة لحماس، وتغيير الوضع غزّة بشكل جوهري، ووقف إطلاق الصواريخ من القطاع عليها". ثمّ تبع ذلك هزّة موجعة أخرى في صورة إسرائيل، وذلك مع صدور تقرير غولدستون عام 2009، والذي وثّق انتهاكات الجيش الإسرائيلي للقوانين والمواثيق الدولية في حربها على الفلسطينيين في غزّة، واتهمها (على نحو غير قاطع) بارتكاب جرائم حرب.

ارتبكت المؤسسة الإسرائيلية إزاء هذا التقرير، ووصفته حينها بأنه يقع ضمن "حملة لتقويض شرعية إسرائيل.. تجاوز الحدّ المشروع من نقد السياسات الإسرائيلية إلى التشكيك في حق الدولة بالوجود". كما صدر عن معهد "ريوت" الإسرائيلي تقرير كامل مقابل ردًا على غولدستون (اليهودي)، يخلص إلى أنّ تقريره كان ثمرة لحملة تضليل مصدرها إيران، وهي تهمة جاهزة كان قد سبق إلى التعبير عنها حينها اللواء الإسرائيلي إيتان دانغوت حيث دعا إلى تعزيز "حرب الدفاع عن الشرعية وحشد الرأي العام"، محذرًا من أنها معركة "ليس أسهل من تلك التي نخوضها في الحروب" (في إيلان بابيه، فكرة إسرائيل: تاريخ القوّة والمعرفة)

"أسطول الحرية" 2010.. تواصل فشل الدعاية الإسرائيلية

في 29 أيار/مايو 2010، انطلق أسطول من ست سفن محمّلة بمساعدات ومواد إغاثية واتّجهت نحو قطاع غزّة بهدف كسر الحصار الإسرائيلي المفروض عليه منذ العام 2007. كانت سفينة "مافي مرمرة" التركية هي أكبر السفن في الأسطول وأهمها، وقد تعرضت في 31 أيار/مايو لهجوم وهي في المياه الدولية من عناصر كوماندوز إسرائيلية، لمنعها من الوصول إلى القطاع، وقد نجم عن ذلك مقتل تسعة أتراك وجرح عشرات من الناشطين والصحفيين والأطباء وعمال الإغاثة الذين كانوا على متنها. كان العالم يتابع البثّ المباشر على فيسبوك، ورغم صعوبة نقل مشاهد الاعتداء العنيف وغير المبرر على السفينة المدنية، إلا أن عددًا من الصحفيين، منهم الصحفي والكاتب الفلسطيني الكندي رفعت عودة، الذي وثّق شهادة تاريخيّة بشأن الحادثة، ومراسل الجزيرة جمال الشيال، وغيرهما، نجحوا في تسجيل ونقل بعض وقائع الهجوم الإسرائيلي على تلك المهمة الإنسانية التي شارك فيها مئات الناشطين من مختلف أنحاء العالم.  

free gaza sign

صحيح أن الهمجيّة الإسرائيلية حينها نجحت في منع الأسطول من تحقيق هدفه وكسر الحصار عن غزّة، إلا أنّ النتيجة التي تلته كانت كارثة دبلوماسية وسياسيّة كبرى في إسرائيل، لاسيما وأن الشهداء التسعة (صاروا عشرة عام 2014 بعد وفاة أحد الناشطين من أثر الإصابة) كانوا رعايا دولة أجنبية مؤثّرة هي تركيا، وسرعان ما تفاقمت الأزمة حتى أعلن الأمين العام للأمم المتحدة حينها عن تشكيل لجنة للتحقيق في الحادثة، كما شكّل الاعتداء هزّة كبرى في العلاقات الإسرائيليّة-التركيّة، ولاسيما مع إصرار إسرائيل على عدم تقديم الاعتذار وتقديم التعويضات للضحايا. 

مثّلت أزمة "مافي مرمرة" حالة فشل جديدة في قدرة إسرائيل على احتواء الأزمات التي تنال من سمعتها وصورتها في العالم، وتؤكّد على سمتها الجوهريّة كدولة احتلال غير شرعيّة ولا ضابط لوحشيّتها. فبحسب دراسة بعنوان "دبلوماسية عامة ببساطير الجيش"، نشرت في مجلة "شؤون إسرائيلية" عام 2018، فإن ما يعرف باسم إدارة المعلومات الوطنية، لم يكن لديها ما يكفي من الكوادر المتخصّصة للتعامل مع أزمة بذلك المستوى، وهو ما مهّد الطريق بحسب الدراسة للمزيد من هيمنة العسكر- عبر وحدة الناطق العسكري في جيش الاحتلال، على لسان الدعاية العامة لدولة إسرائيل واحتكار التعبير عنها، لا عن المؤسسة العسكرية وعملياتها فقط. وبحسب الدراسة، فإنه وبعد حادثة "مافي مرمرة"، بدأت الحدود تتلاشى أكثر بين الناطق الإعلامي السياسي والعسكري، وصار يُنظر إلى المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي بشكل أكبر على أنّهم صورة للنظام السياسي وواجهته الحقيقية، وليسوا مجرّد ممثلين لمؤسسة مهنيّة ذات مهامّ محددة. لقد بدت النخب السياسية في إسرائيل متصالحة مع ذلك تمامًا، بل وتصفه بأنه "طبيعي ومعقول"، حتى صارت وحدة المتحدث باسم جيش الاحتلال هي ذراع الدعاية الأكبر لإسرائيل، المسؤولة عن ضبط الرواية الرسميّة التي يلزم إيصالها للجمهور، وصيانة الصورة العامة للدولة في المحافل الدولية والرأي العام العالمي، ومواجهة أي حملات تسعى للكشف عن حقيقة الاحتلال وفضحها، ونزع الشرعية عنه. وبالنظر إلى حالة عدم الاستقرار السياسي في إسرائيل، والطبيعة العسكرتارية للمجتمع والنخب، وباعتبار أن الجيش هو اللاعب الثابت الأساسي في الحياة الإسرائيلية، فلن يكون من المستغرب أن توكل مهمّة مدنيّة تتعلق بالدعاية العامة إلى جهاز عسكريّ، حتى في الظروف غير الحربية.

إستراتيجيات الهاسبارا

يشير الباحث الفلسطيني جميل خضر، في مقال عام 2014، بعد حرب "الجرف الصامد" على غزّة، إلى مجموعة رسائل أساسية تعتمد الهاسبارا الإسرائيلية باستمرار على إنتاجها وإعادة إنتاجها لتبرير ذاتها أو الدفاع عن جرائمها بحق الفلسطينيين يذكر من بينها:

  • انتقاد إسرائيل معاداة السامية
  • إسرائيل ضامن لمواجهة الإرهاب
  • التضامن مع فلسطين حالة إسلامية

هذا بالإضافة إلى عدة رسائل أخرى ضمن عمليّات التخييل الجمعي والأساطير التي يستدعيها الجهاز ويعتمد عليها، مثل حكاية "داود الإسرائيلي في مواجهة جالوت العربيّ"، وهي أسطورة تأسيسية مهمّة في "فكرة إسرائيل" منذ العام 1948 وعنصر أساسي في الرواية الصهيونية الكلاسيكية حول النكبة. ومنها أيضًا إستراتيجيات "الغسيل الوردي" في الأكاديميا والحملات الدعائية والترويج لمدينة "تل أبيب" على أنّها المدينة الأفضل للمثليين في العالم، والاعتماد على ذلك لبيان "تعددية" المجتمع الإسرائيلي، لكن ضمن الواحديّة الصهيونيّة للدولة، كما يوضّح ذلك إيلان بابيه في كتابه "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة".

كما يكمن عبر تحليل أنماط التضليل في الدعاية الإسرائيلية في مختلف مراحل عدوانها على الفلسطينيين، استنباط سلسلة من الإستراتيجيات الكلاسيكية في عملية "إعادة تحسين الصورة"، بحسب نظرية أستاذ علم الاتصال الأمريكي ويليام بينويت (William Benoit). تشمل هذه الإستراتيجيات ما يلي:

  • الإنكار أو تحويل اللوم للطرف الآخر
  • التنصل من المسؤولية عبر تبرير ما حصل (تهديد وشيك/استفزاز/خطأ فردي إلخ)
  • تقليل فداحة الخطأ (عبر ادّعاء ضرورته لدفع خطأ أكبر، أو التغطية على نتائجه، أو مقارنته بأخطاء أكبر، أو تقويض مصداقيّة الضحيّة)  
  • التعهّد باتخاذ إجراء تصحيحي (فتح تحقيق أو وعد بعدم تكرار ما حصل)
  • الاعتذار

وبحسب سلسلة من التغريدات لمارك أوين جونز، وهو باحث بريطاني متخصص في مجال السلطوية الرقمية والتضليل الإعلامي، فإن هذه الإستراتيجيات تنطبق بشكل نموذجي على تعاطي الاحتلال مؤخرًا مع مجزرة مستشفى المعمداني، ابتداء من إنكارها، ولوم "الفريق الآخر" عنها، والتنصل من المسؤولية المباشرة وتقليل الفداحة الأخلاقية لما حصل عبر الإصرار على ادعاء التفوّق الأخلاقي في الحرب ضدّ "عدو هجمي/إرهابي/لا يستحق الحياة/يتخذ المدنيين دروعًا إلخ". أما آخر بندين فلا يمكن توقعهما أصلًا من إسرائيل.

فلسطين قضيّة عالميّة.. منى الكرد ويعقوب المستوطن

تجلّت حدود فعالية الدعاية الإسرائيلية وأسطورة هيمنتها وتأثيرها في العالم مرّة أخرى إبّان حرب العام 2021 على غزّة، والتي راح ضحيتها أكثر من 200 شهيد، وخلال المواجهات التي سبقتها في القدس المحتلّة والمسجد الأقصى إثر قرارات الإخلاء في حي الشيخ جرّاح واستمرار اقتحامات المستوطنين وتدنيسهم للمقدّسات الإسلامية والمسيحية. في تلك الحرب، بدا التباين كبيرًا بين حالة الغضب في الشارع العربي المقموع، وحالة الغضب والتضامن مع فلسطين في عواصم ومدن أجنبية كبرى، وبشكل أكبر على منصات التواصل الاجتماعي وحسابات أهمّ المؤثرين فيها. لقد كانت تلك لحظة يمكن وصفها بأنها "لحظة منى الكرد ويعقوب المستوطن"، حين انتشر المقطع الذي تتجادل فيه الفتاة المقدسية مع المستوطن الإسرائيلي، وباللغة الإنجليزية، وتخبره "هذا بيتي" فيردّ عليها: "إن لم أسرقه أنا فيسرقه سواي".

حقق ذاك المقطع رواجًا عالميًا، وساعده في ذلك كونه بالإنجليزية، حتّى أنّه مثّل مادّة نموذجية لمناصري فلسطين لتوضيح حقيقة عمليّة الاستيطان الإحلالي التي قام عليها الكيان الإسرائيلي، وبيان حجم المظلمة المتراكمة على الفلسطينيين جميعًا، بما في ذلك القابعين في قطاع غزّة المحاصر، والذي يتألف ثلثا سكّانه تقريبًا من اللاجئين/النازحين، وهي حال نسبة كبيرة أيضًا حتى في الضفة الغربيّة. وقد تواصل التفاعل مع مقاطع عفويّة أخرى من حي الشيخ جرّاح، توثق اعتداءات المستوطنين واستفزازاتهم، وتحاول شرح ما يجري في القدس من عمليات تهويد متواصلة، مع ربط ذلك كلّه بواقع الحصار الخانق في قطاع غزّة، وتسليط الضوء على أشكال المقاومة التي يحاولها الفلسطينيون أمام ذلك. ويومًا بعد يوم، انضمّ عشرات المؤثرين العالميين إلى حملة التضامن الفلسطينية الرقميّة آنذاك، وبزخم غير مسبوق على الإطلاق بحسب ما توثق نيويورك تايمز في تقرير نشر في أيار/مايو 2021. وقد دفعت تلك الحالة عددًا من السياسيين إلى التعبير النادر عن انتقادهم للهجمات الإسرائيلية على قطاع غزّة، خاصة بعد استهداف طيرانها الحربي لبرج الجلاء.

ومع دخول "تيك توك" وتزايد تأثيره كمنصّة أكثر استيعابًا للرواية الفلسطينية، توارت الدعاية الإسرائيلية خارج وسائل الإعلام الغربية السائدة، وبدت هشّة وغير متماسكة، وأقل قدرة على مواجهة الأصوات العالميّة المؤيّدة لفلسطين. كما انتعشت في الخطاب العام من جديد توصيفات لقضية فلسطين لطالما تحسست منها إسرائيل وسعت إلى تهميشها ونفي شرعيتها، من بينها التأكيد على الوصف الحقوقي للوضع القائم في الضفة العربية بأنها "نظام فصل عنصري" وأن النضال الفلسطيني هو نضال ضد المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، والذي يسعى إلى الاستيلاء عليها كاملة وتهويدها، وذلك عبر سياسات التطهير العرقي، التي قام عليها الكيان من لحظة نشأته الأولى على خطط رسميّة لتنفيذها. 

لا الصورة تتحسّن ولا الحرب تتوقّف

رغم الحملة المنظّمة للترويج للدعاية الصهيونية في كل مواجهة ضدّ الفلسطينيين والمقاومة، ورغم الانحياز الغربيّ الدائم إلى جانب إسرائيلي على المستويات الرسميّة ووسائل الإعلام السائدة، إلّا أن ذلك لم يفلح في كبح تنامي حركة التضامن العالميّة مع فلسطين والفلسطينيين، والتشبّث بالمعطى الأخلاقي الأساسي عند مقاربة القضيّة الفلسطينية، والقائم على "الحقيقة"، أي ضرورة تجلية حقيقتها التاريخية القريبة (أنها مسألة شعب طرد من أرضه قبل بضعة عقود)، وعلى "العدالة" التي يلزم إنجازها بعد بسط الحقيقة وعرضها، بعيدًا عن الأساطير والتواريخ الغابرة والسعي عبثًا وراء أدلّة أثريّة كنعانية أو عبرية للبرهنة على أقدميّة شعب على آخر.

ولقد تصاعدت هذه الحالة/الظاهرة من التعاطف مع القضيّة الفلسطينية وتأييدها، لا باعتبارها قضيّة "إنسانيّة" وحسب، كما تفضّل معظم وسائل الإعلام الغربية وتصرّ على تأطيرها وحصرها بهذا البعد، بل باعتبارها قضيّة سياسية في جوهرها، والتأكيد الموضوعي على أنّها معضلة مركّبة خلال عقود من "التطهير العرقي المتواصل وطرد السكّان الأصليين المستمر على يد واحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم" كما يؤكّد مقال جميل خضر المشار إليه أعلاه.

من جهة أخرى، تقوّض هذه الحملات الشعبيّة العالمية المتصاعدة من الصورة التي لطالما سعت إسرائيل في تسويقها عن نفسها، كدولة يهودية ديمقراطية حريصة على السلام والتسامح والتنوّع، وتؤكّد من جهة أخرى على طبيعة الاحتلال المشوّه للمكان والإنسان معًا، والذي يقتل أية فرصة لحلّ عادل في فلسطين والمنطقة بأسرها. كما يجادل بعض المتفائلين عند النظر في القضيّة الفلسطينية، بأنه وعلى الرغم من عدم التكافؤ بين دولة الاحتلال في ميزان القوّة العسكرية والاقتصادية والتقنية، فإن الكفّة في ميزان الدعاية والتضامن ما تزال مائلة لصالح الفلسطينيين والتذكير بحقوقهم والدعوة للتضامن معهم على مستويات أهليّة متعدّدة، مع السعي المتصاعد من أجل محاسبة إسرائيل وفضح جرائمها والدعوة لمقاطعتها. كما يرى آخرون، مثل بيتر بينارت، في مقال في مجلة "ذا نيويورك ريفيو"، أن هذه الموجة من التضامن والمقاطعة لا يمكن صدّها حتى بين الجاليات اليهوديّة ذات النفوذ الكبير في المجتمعات الغربيّة، بما فيها تلك الموجودة في الولايات المتحدة، ولاسيما في ظل حالة مرصودة من "اللامبالاة" بين قطاعات واسعة من اليهود فيها إزاء إسرائيل، وضعف شعورهم بالانتماء إليها، هذا عدا عن الاهتمام المتزايد بدراسة إسرائيل كحالة استعمار قائم ضمن حقل الاستيطان الاستعماري، والنشاط الحقوقي والإعلامي المتواصل في العالم الغربي، ولاسيما في الولايات المتحدة وبريطانيا، لإبراز الواقع في أرض فلسطين كما هو عليه، أي باعتبار أنه نموذج للفصل العنصري والاضطهاد المستمرّ.

في حدود التضامن.. تعساء في الحرب/محتارون بعد الحرب

يلزم التنويه أخيرًا إلى أن الحرب الجارية اليوم على قطاع غزّة، والتي حصدت أرواح زهاء 5000 من الفلسطينيين، من بينهم أكثر من 1200 طفل، تذكّرنا بشكل صارخ ومحبط بحدود أشكال هذا التضامن أمام الغطرسة الحربيّة لإسرائيل ونواياها المعلنة بإبادة الفلسطينيين، في ظل التفويض الغربي الرسمي المطلق لها عقب عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. فالحملة العسكرية الجارية وما تسفر عنه من مجازر يوميّة كبرى، تفتك في الوقت ذاته بالقدرة على التفاؤل بمدى تأثيرها وتحوّلها إلى محرّك حقيقي للرأي العام قادر على التأثير في سياسات الحكومات في العالم الغربي، ودفعها للضغط على إسرائيل لوقف العدوان.

قبل نحو عشرين عامًا، وفي الأسابيع التي سبقت غزو العراق الذي راح ضحيته عشرات الآلاف من العراقيين، شهدت 600 مدينة حول العالم سلسلة متظاهرات متزامنة لم يشهد التاريخ مثلها في حجمها وزخمها وتوحّدها على صوت واحد يطالب لتراجع عن ذلك الغزو غير الشرعي، حتى بدا الأمر كما وصفته نيويورك تايمز حينها وكأن في العالم قوّة كبرى أخرى غير الولايات المتحدة، هي الرأي العام العالمي. كان المشهد قريبًا من الحاصل اليوم في العديد من عواصم ومدن العالم الكبرى، من لندن التي شهدت واحدة من أكبر المظاهرات في تاريخها، وحتى اليابان وكوريا الجنوبية. حصل الغزو عام 2003، وبدأ الاحتلال الكارثي للعراق الموصوف واتسعت رقعة "مقبرة الأمن الجماعي" في العالم. في مقال في التايم الأمريكية عام 2013، كتب أحد من شاركوا في المظاهرات قبل الغزو متحسرًا: "تلك الحالة الغامرة من التضامن التي تملّكتني قبل 10 سنوات، استحالت اليوم إلى شكل من الحزن والركون إلى الواقع. في منطقة معقدة ومضطربة سياسيًا كالشرق الأوسط، من الصعب التمسّك بمواقف أخلاقية ثابتة".

مرعبٌ اليوم التفكير بأننا سوف نقرأ بعد فترة وجيزة تعليقًا مشابهًا في فحواه حول ما جرى للناس في قطاع غزّة. أن نقول: عامٌ على مجازر غزّة الكبرى: من يتذكّر؟ 

 

مصادر وقراءات إضافية