مع كل قضيةٍ تُثار على المستوى السياسي والفكري، يَتأكّدُ أنّ الأزمة التي يعيشها الإسلاميون على مستوى الوطن العربي خاصة في المشرق، أزمة فكرية أكثر من كونها تنظيمية.
يتأكد مع كل قضية سياسية أو فكرية، أن أزمة الإسلاميين في الوطن العربي، هي أزمة فكرية أكثر من كونها تنظيمية
قد يكون للقمع الشديد غير المبرر الذي مرّت به تلك التنظيمات يدٌ في تصدير بعض الأفكار البائسة للواجهة، لا سيّما في أوساطِ الشباب الذي تعرّض للقمع بالاستبداد، سواء من الأنظمة السلطوية، أو من الأزمات الداخلية للتنظيمات ذاتها، التي طفتْ على هيئة مشكلاتٍ تتعلقُ بالأفكارِ السياسية لهذه التنظيمات.
اقرأ/ي أيضًا: عودة الإسلام السياسي.. قصة الشبح والعنقاء
إشكالية الوصاية
إحدى تلك الظواهر "الإشكاليات"، هي الوصاية الّتي يسعى بعض أفراد تلك التنظيمات ممارستها في كل قضية أو نقاش عام يتصدر إلى الواجهة، ليس فقط على المجتمع الّذي تتواجد فيه تلك التنظيمات، بل على مستويات أوسع لتشمل فضاءات خارجية كبرامج تلفزيونية أو "يوتيوبية".
بالطبع من حق كل فرد أن يبدي رأيه في أي شيء، لكن الوصاية هنا هي انتقاد الشيء على وجه يحمله أن يكون على نمط واحد فقط، ولا يحتمل أن يكون على غيره من أنماط أخرى.
بطريقة أخرى: ينتقد الإسلاميون إحدى القضايا كي تكونَ على الوجه الذي يرونه فقط صحيحًا، وما عدا ذلك خاطئ، وهو نوع من الانغلاقية، على عكس الانفتاح وقبول الآخر الذي لابد أن تكون عليه التنظيمات السياسية في المجتمعات التي تنشد الديمقراطية، والساعية للوصول إلى السلطة في المجتمعات التي تُمارس فيها العمل السياسي.
سؤال الحكم والديمقراطية
أعتقد أن تلك المشكلة المفصلية تواجه الإسلاميين، خاصةً في سؤال الحُكم، فهل يسعى الإسلاميون من خلال الرغبة في الحكم إلى فرض ما يريدون "من تشريعات ونظام حكم"، وفقط إذا جاءت بهم الأدوات الديمقراطية إلى الحكم، أو أداة أخرى غيرها، أم أن الهدف الأساسي هو إزالة الاستبداد والحكم السلطوي، وترك حرية الاختيار للشعب؛ أي تمكين الناس من اختيار الشيء الذي يريدونه؟
بالطبع فإن الإجابة تقريرًا بالشقِّ الأول من السؤال: "فرض ما يرون"، نوع من فرضِ الوصاية على المجتمعات باسم الدين، ومن ثمّ فعلينا الاعتبار بأن هذا السؤال الإشكالي لا بدّ أن يؤخذ بعين الاعتبار في عملية الإصلاح التي لابد أن يمر بها الإسلاميون في المرحلة القادمة، والتي لا بدّ أن تُقاد من داخل صفوف الإسلاميين باحثين ومفكرين، أي لابد أن تكون تلك الفكرة قائمة: التنظيمات الإسلامية لا تتواجد في المجتمع بشكل أساسي لفرض الوصاية على الناس وممارسة الاختيار بدلًا عنهم، أو فرض ما لا يودّه الشعب تحت ذريعة أنّ هذا ما تفرضه الشريعة الإسلامية!
خلل في فقه الأولويات
يبدو بذلك، أن هناك خللًا في فقه الأولويات، وفي سؤال الحكم عند الإسلاميين؛ لأنه من الأجدر أن تكون منهاجية تلك التنظيمات أن تعمل على إزالة الاستبداد والأنظمة السلطوية، حتى تكون الشعوب ذات إرادة حرة، تختار ما تشاء وكيفما تشاء، ويكون دور تلك التنظيمات الإسلامية هو العمل بوسائلهم "الدعوية"، على المستوى الشعبي لإقناع الناس بضرورة أن يتوافقوا مع خياراتهم ورؤاهم، والتعبير عن هذا الإقناع بالديمقراطية التي تأخذ برأي الأغلبية، ومن ثم يتمكّن الإسلاميون من تطبيق ما يشاؤون من خلال الأغلبية، وليس أن تُسقط تلك التنظيمات على الناس التشريعات والأحكام، بممارسات فوقية سلطوية، لا تُعلي من مبدأ حرية الاختيار لدى الشعب.
حينما هاجر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- من مكّة إلى المدينة، لم يكن قد نزل التشريع في القرآن المكي وقت حكم الاستبداد والقمع الجاهلي، ولم يكن الناس قد حصلوا على حريتهم الّتي تُمكنهم من اختيار ما يشاؤون، ومن ثم حينما توفر لهم مناخ الحرية، وأبقى النبي على حرية الديانات الأخرى والجهر بالعبادات وعدم الإكراه على دين معين في المجتمع الجديد (المدينة المنورة)، نزلت القوانين والتشريعات السماوية في القرآن المدني -أي الذي نزل في المدينة- دون وصاية على غير المؤمنين بالدين الجديد. وكانت العلاقة التعاقدية في "صحيفة المدينة"، أساسها الحرية في الاختيار.
قد يكون ضرب المثال السابق ليس في محله، كون التشريعات هناك كانت تُنزّل من السماء عبر الوحي الذي انقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون هذا الوحي قد انقطع وفُتح باب الاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي، فهو ما لا يتيح لأصحاب تلك التنظيمات فرض الوصاية على المجتمعات التي لم تختر أن تُحكم عبر نص التشريع الإسلامي.
وقد يكون السبب في هذا التفوق العلماني في التأثير على الناس، تقصير الإسلاميين أنفسهم عن توصيل حقيقة التشريع الحكيم للمجتمع الذي يتواجدون فيه، فالواجب -بلفظة أصول الفقه- إذن هو السعي "الدعوي" -بمفهوم الإسلاميين- لإفهام الناس وإيضاح الحقيقة من وجهة نظر الإسلاميين أنفسهم.
هكذا هو العمل السياسي في الدول التي تسعى لترسيخ الديمقراطية، لا أن تحتكر جماعة أو فصيل معين التشريع الصالح، وتمارس الوصاية على الجمهور الذي لم يرضها وينتخبها، باسم أنهم يريدون لهم الخير!
الوصاية المتعدية.. تونس نموذجًا
تتعدى الوصاية التي يسعى الإسلاميون إلى ممارستها، ليس فقط على مجتمعاتهم التي يتواجدون فيها، بل على مجتمعات أخرى، والتي يتواجد فيها إسلاميون لكن برؤى مختلفة.
خذ مثالًا الحالة التونسية: انتشر التنظير من أفراد ورموز إسلامية -خاصة من إسلاميي المشرق العربي- على الحالة التونسية، رغم أنهم لم يلمّوا بخصوصيتها وتفاصيل اللعبة السياسية فيها، ومارسوا الوصاية على حركة النهضة ومنظّريها وسياسييها، واتهموها بالعلمنة والقفز على ثوابت الشريعة الإسلامية بعد تقرير "لجنة الحريات الفردية والمساواة"، التي رفعتْ توصياتها للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ومن ضمنها المساواة في الميراث بين الجنسين.
جاء ذلك رغم أن التشريع لن يتم فرضه على المجتمع التونسي دون موافقة البرلمان، المنتخب حقيقة من الشعب التونسي، ورغم أن حزب النهضة عبّر عن رفضه لمشروع القانون الذي عزم السبسي أن يتقدم به للبرلمان، والرجل لم يتخطَّ الدستور، ولم يسعَ لفرض القانون على الشعب بغير القنوات الدستورية.
وحقيقةً لا أفهم، ما الذي يريده الإسلاميون "الأوصياء"، أن يفعل حزب النهضة في تونس أكثر من أن يعبر عن رفضه من خلال نوابه في البرلمان؟! هل مثلًا يريدون منهم الاتفاق مع الجيش على تنظيم انقلاب عسكري يعاني منه إسلاميو مصر إلى اليوم؟ أم الانتفاضة ورفض الخيار الديمقراطي، الممثل للشعب، من أجل حفظ أحكام الشريعة؟ لا أتصور أن يحدث هذا في بلد تسعى نحو ترسيخ ديمقراطيتها والحفاظ على مؤسسية القرار فيها، بعيدًا عن التدخلات الخارجية أيضًا.
أزمة الوصاية الّتي يُمارسها الإسلاميون تأتي من خلل فكري، لا بدّ أن يتم مراعاته في أي محاولة قادمة للإصلاح
برأيي فإنّ أزمة الوصاية الّتي يُمارسها الإسلاميون تأتي من خلل فكري، لا بدّ أن يتم مراعاته في أي محاولة قادمة للإصلاح، وهي مرحلة ضرورية لتجاوز الأزمات الحالية كي لا تتكرر نفس النتائج التي أودت بالتنظيمات الإسلامية نتيجة ضعف الرؤية السياسية، فالحرية الّتي دعا إليها الإسلام نفسه، أسمى من ممارسة الاستعلاء والوصاية واحتكار الدين في المجتمعات.
اقرأ/ي أيضًا: