حمل التسجيل المصور يوم الإثنين لزعيم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أبي بكر البغدادي العديد من الرسائل والدلالات التي أراد إيصالها لأنصاره ومؤيديه على المستوى الأول، وللدول الغربية على المستوى الثاني، كان أبرزها التأكيد على سلامته الجسدية بعد التقارير التي تحدثت عن مقتله أو إصابته، وأن التنظيم لا يزال قويًا يمكنه خوض "حرب استنزاف" رغم القضاء عليه في سوريا والعراق.
إن القضاء على تنظيم داعش لا يزال غير ممكن في الوقت الراهن، فهو رغم هزيمته في سوريا والعراق، لا يزال يملك نفوذًا في مناطق الشرق الأوسط مرورًا بشرق وجنوب آسيا حتى شمال أفريقيا
في ضيافة أبي بكر البغدادي
جاء التسجيل الذي نشرته مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، أقدم الأذرع الإعلامية للتنظيم التي تأسست عام 2006، تحت عنوان "في ضيافة أمير المؤمنين"، ظهر خلاله البغدادي بلحية طويلة اختلط فيها الشيب مع الحناء، جالسًا داخل غرفة يضع إلى يمينه سلاح كلاشينكوف روسي، ويتحدث إلى ثلاثة أشخاص ملثمين يجلسون إلى يساره فيما يبدو أنهم من الدائرة المقربة التي يعتمد عليها في تنقلاته حاليًا.
اقرأ/ي أيضًا: قصة داعش.. "تمدد" سريع وانحسار مُكلف و"بقاءٌ" محتمل
وتطرق البغداي في بداية التسجيل الذي بلغت مدته 18:22 دقيقة إلى سقوط بلدة الباغوز بريف دير الزور بقوله: "معركة الباغوز انتهت، ولكن معركتنا مع الأعداء مستمرة"، مشيرًا لما وصفه بـ"البطولات" التي قدمتها قيادات التنظيم بالاشتراك مع الإعلاميين والجنود وأعضاء الهيئة الشرعية قبل سقوط البلدة بقبضة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من التحالف الدولي الشهر الماضي.
وتضمن التسجيل المصور ذكر البغدادي لأسماء مجموعة من قيادات التنظيم من مختلف الجنسيات قال إنهم قدموا "البطولات"، وواجهوا "الحملة العسكرية الشرسة" التي استهدفت بلدة الباغوز آخر معاقله في سوريا، وأشار البغدادي خلال حديثه إلى أن التنظيم نفذ 92 عملية في ثماني دول فيما وصفه "ثأرًا لأهل الشام"، مطالبًا أتباع التنظيم في "مالي وبوركينا فاسو بالثأر لاستهداف فرنسا للمسلمين في الشام والعراق"، حسبما ورد في التسجيل الذي وصف خلاله معركة التنظيم الحالية بأنها "معركة استنزاف".
وكان لافتًا أن البغدادي أشار خلال حديثه للتطورات السياسية الأخيرة التي شهدتها المنطقة العربية من خلال سقوط الرئيسين الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والسوداني عمر البشير، معتبرًا أن "السبيل الوحيد مع الطواغيت هو الجهاد للحصول على الكرامة والعزة، لأن الطواغيت لن ينفع معهم إلا السيف"، على حد وصفه في التسجيل الذي يظهر في نهايته كما لو أنه يتفقد ملفات مرتبطة بالجماعات الإسلامية المتشددة التي بايعته في الصومال واليمن ومنطقة القوقاز.
لماذا أراد البغدادي الظهور شخصيًا في التسجيل المصور؟
يحمل ظهور البغدادي بشكل شخصي في هذا التوقيت مجموعة من الرسائل التي أراد توجيهها بعد العديد من التقارير التي تحدثت عن مقتله أو إصابته خلال المعارك التي كان يخوضها عناصره في سوريا والعراق، ويأتي في مقدمتها أن توقيت نشر المقطع جاء بالتزامن مع الذكرى الخامسة للإعلان عن تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بعد أن كان اسمه سابقًا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، حيثُ أراد أن يدحض التقارير التي تحدثت عن مقتله أو إصابته، والتأكيد على عدم القضاء على تنظيمه بشكل نهائي ثانيًا.
فقد عمل عناصر داعش المتمركزون في عمق البادية السورية منذ الإعلان رسميًا عن القضاء عليه في سوريا، على شن هجمات متفرقة لكنها منظمة استهدفت قوات النظام السوري، والميليشيات الأجنبية التي تتلقى دعمًا من إيران، وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد ذكر أنه قتل ما يزيد عن 1300 عنصر من قوات النظام السوري منذ حزيران/يونيو 2014 حتى نهاية نيسان/أبريل الجاري.
لكن الأهم من ذلك أنه لم يتم القضاء على التنظيم بشكل نهائي في سوريا فعليًا، وذلك ليس بالاستناد للهجمات التي ينفذها في عمق البادية السورية فحسب، إنما من خلال ظهور تنظيم جديد في محافظة إدلب التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام يحمل اسم سرايا خالد بن الوليد، أعلنت بيعتها للتنظيم قبل ستة أيام، وهي مجموعة من الخلايا النائمة قامت بتوحيد نفسها تحت هذا المسمى.
واللافت أكثر في التسجيل أن أحد الملفات التي كان يتصفحها البغدادي حملت عنوان "ولاية وسط أفريقيا" التي أعلن رسميًا عن تأسيسها في 20 نيسان/أبريل الجاري بعد تبنيها للهجوم الذي نفذته جماعة "القوات الديمقراطية المتحالفة" في قرية كمانغو في جمهورية الكونغو الديمقراطية، قرب الحدود مع أوغندا، وكانت وكالة رويترز ذكرت العام الماضي أن القوات الديمقراطية تلقت تمويلًا ماليًا من أحد الأشخاص الموالين لتنظيم داعش.
كما أن البغدادي أراد من خلال ظهوره متصفحًا لملفات المناطق التي يملك أنصارًا له فيها، الإشارة إلى أنه هو من يديرها جميعها، وأن التنظيم ما زال متماسكًا رغم تحوله إلى حرب الاستنزاف، بحسب ما رأى محللون مختصون بالجماعات الإسلامية المتشددة، إلا أن الدلالة الأبرز في ذلك هي التأكيد على أن التنظيم مازال يتمدد في مناطق مختلفة من آسيا وأفريقيا بدليل إعلانه تأسيس ولاية الصحراء جنوب مالي.
وما بين يومي 20 – 22 من الشهر الجاري تبنى التنظيم إلى جانب الهجوم الذي نفذه في جمهورية الكونغو، سلسلة الهجمات الإرهابية التي استهدفت سريلانكا خلال الاحتفالات بعيد القيامة ما أسفر عن مقتل أكثر من 350 مدنيًا، والهجوم الذي استهدف مبنى أمنيًا في مدينة الزلفي شمال غربي الرياض، بالإضافة للهجوم الذي استهدف وزارة الاتصالات في العاصمة الأفغانية كابول.
هل يعود تنظيم داعش من جديد؟
كان كبير مستشاري التحالف الدولي المبعوث الأمريكي ويليام روبوك واضحًا في تصريحه عقب الإعلان عن القضاء على التنظيم نهائيًا في سوريا، حين أكد أنه "لا يزال يمثل تهديدًا لا يستهان به في المنطقة"، حيث تقول واشنطن إن العناصر الذين ينشطون في عمق البادية السورية المتصلة مع العراق يقدر عددهم ما بين 15 إلى 20 ألف عنصر، ويشكل أغلبهم خلايا نائمة تحاول استجماع قواها وبناء نفسها مرة أخرى.
فقد أشار الصحفي البريطاني باتريك كوكبورن في مقال نشره قبل أيام في صحيفة الإندبندنت البريطانية إلى أن الصحف الغربية تجنبت خلال الفترة الماضية الحديث عن الهجمات التي ينفذها عناصر التنظيم في العراق وسوريا على الرغم من إعلان القضاء عليه في الدولتين اللتين تتقاسمان شريطًا حدوديًا بطول يزيد عن 600 كم، مضيفًا أن أفضل طريقة للقضاء على التنظيم تتمثل بإنهاء الأطراف الدولية للصراعات المسلحة في مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وقد كشف تقرير أمريكي أن التنظيم لا يزال يملك انتشارًا عالميًا قويًا، وعزز التقرير ذلك من خلال رصده ثماني جماعات إسلامية متشددة قامت بمبايعته رسميًا، وأكثر من 24 شبكة مخصصة لشن الهجمات الإرهابية في مختلف أنحاء العالم، حيثُ يملك أدوات متطورة، وظهورًا فعّالًا على شبكة الإنترنت يسهل تحريض أنصاره على شن الهجمات الإرهابية داخل البلدان التي يحددها قادة التنظيم.
إضافًة لذلك، فإن نساء عناصر التنظيم المتواجدات في مخيم الهول شمال شرق سوريا، يقمن بإجبار عناصر التنظيم الذين هربوا من المعارك إلى المخيم على الالتزام بمبادئ التنظيم، من خلال تهديدهم برفع السكاكين ضدهم، ورميهم بالحجارة، وفي أحيان أخرى يعمدن لإحراق الخيم بحسب ما ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، مشيرًة إلى أن الأشخاص الموالين للتنظيم في المخيم أقدموا على تشكيل خلايا نائمة لمعاقبتهم بطريقة أكثر منهجية، وهذا يشير لحجم التجاهل الدولي في إيجاد آلية واضحة للتعامل مع عناصر التنظيم أو عوائلهم التي يحتجزها في سوريا والعراق.
اقرأ/ي أيضًا: داعش من "الدولة" إلى العصابة.. انحسارٌ مركزي وتمدد شبكي
لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، فقد كشف مقال نشر في موقع ذا أتلانتك للكاتب ديفيد كينر أنه رغم إعلان واشنطن بالاشتراك مع حلفائها القضاء على التنظيم، فإنهم تجاهلوا الاقتراب من إمبراطوريته الاقتصادية باستثناء القطاع النفطي، حيثُ لا يزال يملك القدرة على الوصول لملايين الدولارات المخزنة لديه من المشاريع الاقتصادية التي كان ينفذها في مناطق سيطرته، أو الشركاء المحليين الذين يتعامل معهم في مناطق أخرى، كما جرى في مدينة أربيل العراقية عندما نُفذت مجموعة من المداهمات في تشرين الأول/أكتوبر الماضي على مقرات لشركات لها صلات مع التنظيم، عثر خلالها على وثائق تشير لاستثمار التنظيم في مشاريع مختلفة بينها تجارة العقارات والسيارات.
يحمل ظهور البغدادي بشكل شخصي في هذا التوقيت مجموعة من الرسائل التي أراد توجيهها بعد العديد من التقارير التي تحدثت عن مقتله أو إصابته خلال المعارك التي كان يخوضها عناصره في سوريا والعراق
ووفقًا للمعطيات السابقة فإن القضاء على التنظيم لا يزال غير ممكن في الوقت الراهن، فهو رغم هزيمته في سوريا والعراق، لا يزال يملك نفوذًا في مناطق الشرق الأوسط مرورًا بشرق وجنوب آسيا حتى شمال أفريقيا حيث توجد نزاعات مسلحة، وهو ما أشار إليه كوكبورن في مقاله حين ذكر أن الدول الغربية تسعى لمحاربة التنظيم عبر منعه من الوصول لمواقع التواصل الاجتماعي متجاهلين أن جميع قياداته هم في الأساس مجموعة من الضباط ذوي الخبرة العسكرية يستطيعون التكيّف مع الظروف المرحلية.
اقرأ/ي أيضًا: