11-ديسمبر-2023
إعلان من مستشفى رامبام يحث الجنود على التبرع بالحيوانات المنوية بعد حرب 2014 على غزة (يديعوت أحرونوت)

إعلان من مستشفى رامبام يحث الجنود على التبرع بالحيوانات المنوية بعد حرب 2014 على غزة (يديعوت أحرونوت)

ظهرت نسخة من هذه المقالة أولًا بالإنجليزية في مجلة "Mondoweiss"

في ليلة السبت، السابع من أكتوبر، وفي خضم استعدادات "إسرائيل" لواحدة من أكثر حروبها عنفًا على قطاع غزة، زارت عائلات ثلاثة جنود قتلى إحدى مستشفيات الجنوب، وفي بالهم طلب غريب؛ أرادوا استخراج الحيوانات المنوية من أجساد أبنائهم القتلى. اكتسبت هذه العملية الطبية التي تُسمّى "الانتفاع من النطف" (Sperm Utilization) زخمًا بطيئًا في "إسرائيل" في السنوات الأخيرة. وحسب التقديرات العلمية، فإنه يمكن استخراج النطف من أجساد الموتى حتى 72 ساعة بعد الموت، مما يسمح بما يطلق عليه طبيًا "الإنجاب بعد الوفاة" (Posthumous Reproduction)

في السياق الإسرائيلي، وعلى نحوٍ يختلف عن أي مكان آخر في العالم، فإن الإنجاب بعد الوفاة والنقاشات حوله يرتبطان بشكل شبه حصري بالجنود القتلى أو الأشخاص الذين لهم صلات بالجيش. بعد أحداث السابع من أكتوبر، أخذ الجيش الإسرائيلي على عاتقه إخبار كل عائلة جندي قتيل بإمكانية إجراء هذه العملية، وتسهيل التواصل مع الأشخاص المختصين الذين يساعدون على إجرائها. ومنذ ذلك الحين، قامت المستشفيات الإسرائيلية باستخراج النطف من أجساد عشرات الجنود القتلى.

يكتسب الإنجاب بعد الوفاة في "إسرائيل" بُعدًا أمنيًا عميقًا يعكس ما يُطلق عليه باحثون "العسكرة الشاملة للمجتمع"، حيث يُنظر إلى الجنود باعتبارهم تجسيدًا للذكورة القومية

إن المآزق الأخلاقية كثيرة ومعروفة فيما يتعلق بالإنجاب بعد الوفاة، مثل مستقبل الأطفال المحتملين واستخدام نطف أشخاص متوفين بدون موافقتهم.. إلخ. لكن إحدى الإشكاليات الموجودة في "إسرائيل" بشكل خاص، هي أن هذه الممارسة تكتسب بُعدًا أمنيًا عميقًا، بحيث أصبحت خاضعة للاعتبارات السياسية والعسكرية. إنها تتجاوز الحميمي والعائلي، وتعكس ما يطلق عليه باحثون بـ"العسكرة الشاملة للمجتمع"، حيث يُنظر إلى الجنود باعتبارهم تجسيدًا للذكورة القومية، ويتم تمثيل الإنجاب بعد الوفاة كتكريم لمن يسقط منهم، ووسيلة لتخليد إرثهم.

أحد الأمثلة البارزة على هذا التقاطع بين الحميمي والعسكري، هو الحالة التي يكون فيها الجندي القتيل أعزبًا. في هذه الحالة، تبحث العائلة عن نساء متطوعات، لا يعرفن الجندي القتيل في الغالب، من أجل حمل طفله. أما الصادم، فهو أن العثور على هؤلاء المتطوعات ليس صعبًا كما هو متوقع. ففي معظم الحالات التي قامت فيها العائلات بنشر إعلانات للبحث  عن متطوعات، تلقت عددًا هائلًا من الردود. وتعود أول حالة لعام 2002، كيفان كوهن، جندي إسرائيلي قُتل في قطاع غزة. بعد ساعة واحدة من نشر عائلته للإعلان، تلقت رسائل من 200 متطوعة.

إن تفضيل النساء الإسرائيليات وبعض الأزواج للحيوانات المنوية من رجال عسكريين ليس مفاجئًا في مجتمع تتم فيه عسكرة كل شيء، بما في ذلك الإنجاب والرجولة والأمومة. مع ذلك، فإن ما هو صادم أن هذه التفضيلات تظهر في أكثر صورها وضوحًا في لحظات العنف المتطرف ضد الفلسطينيين. ففي عام 2014، وخلال الحرب الإسرائيلية على غزة التي أدت إلى مقتل أكثر من ألفي فلسطيني، الغالبية العظمى منهم من المدنيين، شهدت بنوك الحيوانات المنوية في "إسرائيل" ارتفاعًا في الطلب على نطف من متبرعين لهم خلفية عسكرية أو يعملون في وحدات مقاتلة. ومنذ ذلك الحين، بدأت بنوك الحيوانات المنوية في "إسرائيل" تضع الخلفية العسكرية للمتبرعين في ملفاتهم، بل قام بعضها برفض المتبرعين الذين ليس لديهم صلة بالجيش أو لم يخدموا فيه.

خلال بحثي عن الإنجاب بعد الوفاة في "إسرائيل"، تابعت حالات العديد من الجنود القتلى الذين بحثت عائلاتهم عن متطوعات، لكن حالة واحدة لفتتني أكثر من سواها؛ بارئيل، جندي إسرائيلي قُتل على حدود غزة في عام 2021، حيث كان يعمل كأحد القناصين الذين تسببوا بقتل وإصابة عشرات المتظاهرين الفلسطينيين. في السنة الماضية، لجأت أمه إلى حسابه في فيسبوك من أجل البحث عن متطوعة لحمل طفل ابنها. حيث كتبت منشورًا يقول: "هذا هو ابني. لقد خسرناه على يد إرهابي بشكل مأساوي قبل ستة شهور. إنني أبحث عن امرأة يمكنها أن تلتزم بهدف عائلتنا بكل إخلاص، أن ترعى حفيدي، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من عائلتنا. خلال الست شهور الماضية، اتحدنا، عائلة بارئيل وأصدقائه، حول هدف واحد، وهو إكمال إرثه".

على حساب الأم على فيسبوك، هناك صورة أخرى تُظهرها بجانب ما يبدو أنه سيارة عسكرية مغطاة بصورة بارئيل. لاحقًا، اكتشفت أنه تم تأسيس "ميليشيا مدنية" لتخليد اسمه، باسم "سيريت بارئيل". توصف هذه الميليشيا حسب تقارير إسرائيلية بأنها يمينية متطرفة، وهي كما هو موضح على موقعها الإلكتروني مجموعة من الجنود المدنيين الذين يساندون الشرطة والجيش. وبدعم من الحكومة المحلية في بئر السبع وقوات الشرطة، فإن الطلاب من المدينة يحصلون على منح مالية مقابل التطوع في الميليشيا، التي يعود تأسيسها إلى ألموغ كوهين، عضو كنيست عن حزب إيتمار بن غفير، المعروف بأنه من الشخصيات الأكثر تطرفًا في "إسرائيل". يدعو كوهين إلى طرد الفلسطينيين بصراحة، وخلال جدل في "إسرائيل" حول دور الميليشيا، قال إن بارئيل لو كان حيًا، لما انتظر من الشرطة أن تتصرف.

إن التقاطع بين الحملتين - واحدة لإنجاب طفل من أجل الحفاظ على إرث بارئيل وأخرى لتأسيس ميليشيا باسمه - ليس مجرد صدفة. وكما تشير بعض التعليقات على الصورة التي نشرتها الأم، فإن كلاهما، الطفل والميليشيا، يخدمان استمراريته. وبينما تنتج التفضيلات الديموغرافية في مجتمع معسكر بالكامل أشكالًا من "الذكورة المهيمنة" (hegemonic masculinity)، فإن الاستمرارية المستهدفة ليست استمرارية فرد أو ابن أو حتى رجل، ولكن على نحو خاص، جندي في وحدة مقاتلة.

بالنسبة للنساء اللواتي يبحثن عن نطف للإنجاب، فإن المعلومات حول صاحب هذه النطف تصبح بمثابة مؤشر على شخصية الطفل المحتملة، بيولوجيًا واجتماعيًا. وكما يشرح باحثون في الحقل، فإن المتبرع بالنطف هو مزود للسلعة وهو السلعة نفسها، حيث يتم النظر إلى حيواناته المنوية كحامل مادي لجوهره الروحي. هذا الجوهر الروحي هو دوره العسكري في تقديم حماية للأمة وتنفيذ مهماتها القومية. في الحالة الإسرائيلية، تم عسكرة هذه التفضيلات بشكل عميق، تحديدًا فيما يتعلق بالإنجاب بعد الوفاة. حيث إن الاعتقاد السائد بأن الدولة مدينة لأهالي الجنود القتلى بتوفير هذا الخيار الإنجابي، هو منظور غريب غير موجود تقريبًا في أي مكان آخر في العالم.

تسلط هذه الممارسة الضوء على الدور المعقد للمؤسسة الطبية في نظام استعماري استيطاني، وهو دور بدا واضحًا في الأحداث الأخيرة، مثل العريضة التي وقّع عليها عشرات الأطباء الإسرائيليين وتدعو الجيش لقصف المستشفيات في قطاع غزة. لكن ما هو أهم، أن هذه الممارسة تُظهِر المستوى العميق من عسكرة الحميمية والإنجاب في "إسرائيل"، حيث يتقاطع الطب مع الذكورة والعسكرتارية في إنتاج فانتازيا استعمارية، مرتبطة بالعنف ضد السكان الأصليين بشكل أساسي، ويصبح فيها تخيّل مستقبل الأمة الاستيطانية بدون هذا العنف غير ممكن.

منذ تأسيس "إسرائيل" على أنقاض المجتمع الفلسطيني، لم يتم النظر فقط إلى الخصوبة الفلسطينية كمصدر تهديد، ولكن نُظر إلى القدرات الإنجابية اليهودية كمصدر لأمان واستدامة الدولة. وعلى هذا النحو، فإنه يتم تخيل المستقبل الاستعماري من خلال قدرات "الرجل العضلي" (Muscular Jew) – على النقيض من يهودي المنفى الضعيف - والمرأة اليهودية الخصبة. هذا المنظور واضح في التنظيم الإسرائيلي لتقنيات الإنجاب بالمساعدة، حيث تُعتبر "إسرائيل" أحد أكبر الأسواق العالمية لهذه التقنيات. ويُظهر توزيع العيادات التي تقدّم هذه الخدمات في "إسرائيل" مجانًا هذه الانتقائية، حيث إنها تتواجد بالكامل تقريبًا في مناطق يسكنها اليهود.

ينظر الإسرائيليون إلى الحيوانات المنوية للجندي الإسرائيلي كحامل مادي لجوهره الروحي، وهذا الجوهر هو دوره العسكري في تقديم حماية الأمة

لقد شكلت هذه الأدوار والتخيلات العسكرية معنى أن تكون رجلًا أو امرأة في "إسرائيل". وكما تشرح باحثات إسرائيليات، مثل نيتزا بيركوفيتش، فإن الأمومة ليست فقط مهمة قومية في "إسرائيل"، ولكن العلاقة بين النساء والدولة مبنية على أساس أنهن أمهات أو أمهات محتملات، لا أفراد أو مواطنات.

في هذا السياق، وحيث تعبر النساء عن انتمائهن للأمة حصريًا من خلال كونهن أمهات أو أمهات محتملات، فإن الرجولة في "إسرائيل"، كما يشرح أحد أهم علماء الاجتماع الإسرائيليين، باروخ كيمرلينغ، مبنية حول صورة الرجل الطلائعي الذي يفض بكارة الأرض الأصلانية العذراء. وكما يلمح كيمرلنغ، فإنه وفي هذه الأدائية الجندرية والقومية، فإنه لا يمكن تجاهل أن هؤلاء الرجال والنساء هم مستوطنون مهاجرون. وفي حين يقاتل المحارب الذكر من أجل حماية الدولة التي ستبقى دائمًا في خطر، فإنه يتعين على المرأة أن تلد وتعيد ولادة الأمة.