يتعرض بانكسي، فنّان الغرافيتي الشهير، لانتهاك رأسماليّ وقح في معرضه المقام في مدينة هامبورغ الألمانية الآن، وهو معرض طاف في العديد من مدن ألمانيا والنمسا منذ سنة تقريبًا، وعلى الرغم من التقديم المبالغ فيه في تقدير بانكسي بشكل يوحي بالتكريم، سوى أن السياق العام والأعمال الفنية وآلية الزيارة كلها توحي بقصة استغلال واحتيال متعددة الوجوه.
بانكسي، مثل كل فنّاني الشوارع، أراد العودة بالفن إلى فضاءاته الأولى: الجدران. سعيًا نحو دفع الفن للمشاركة في الفضاء العام، وتأكيدًا على حضوره المباشر في الحياة كي يعبّر عن كل مهمل ومهمش
"لغز بانكسي.. عقل عبقري" (The Mystery of Banksy - A Genius Mind) عنوان يعد بشيئين لن نجدهما في المعرض، فلا لغز الفنان الغامض المتواري ينكشف، ولا تكريمه والاحتفاء به يحدث.
أول ما يفصح عن خبر هذا الانتهاك أن المعرض مقام في مول تجاري. بانكسي ومول تجاري؟ ناقد الرأسمالية في أحد حصونها؟ تناقض لا يمكن أن يستقيم في عقل أيّ منا. ورغم أنه يتوجب على كل من يتعاطى الفن أن يفكر ويسأل ويفحص، إلا أن الواضح جدًّا أن المعرض المتجوّل مصنوع لمن لا يبالون بسؤال أو تفحص سياق.
بانكسي، مثل كل فنّاني الشوارع، أراد العودة بالفن إلى فضاءاته الأولى: الجدران. سعيًا نحو دفع الفن للمشاركة في الفضاء العام، وتأكيدًا على حضوره المباشر في الحياة كي يعبّر عن كل مهمل ومهمش. ناهيك عن كونه تمردًا علنيًا على شكل العرض المخصص للنخبة، والمصنوع لوقت مؤقت، ليذهب باتجاه العابرين وليبقى في مكانه ما بقيَ الجدار الذي يحمله.
وهنا سنكتشف أن الأمر برمته عملية اعتداء، فلا أعمال له هنا. أصلًا كيف يمكن جلب أعماله إلى هذا المعرض وهي بالأساس مرسومة على جدران منازل ومنشآت؟ كل ما في الأمر بخٌّ جديد لرسوماته الشهيرة، او إعادة رسم، أو على شكل تجهيز. والردّ لدى المنظمين حين يأتيهم من يتحدث عن حقوق الملكية أنّ بانكسي لا يعترف بحقوق الملكية، وبهذا تُستغل فكرة الفنان الاحتجاجية ضده، وضد عمله، وضد مقاصد الفكرة نفسها، من أناسٍ لا همّ لهم سوى تحقيق الربح.
ولهذا المعرض مثيلٌ نظّمه في 2018 ستيف لازاريدس، مدير الأعمال السابق لبانكسي، الذي غدا واحدًا من أكبر تجار الفن في أوروبا. وقتها عرض أعمالًا أصلية من مقتنياته الخاصة، ما أثار بانكسي الرافض كليًّا للفن التجاري، وكتب يومها على موقعه البيان الآتي: "بانكسي ليس على فيسبوك، ولا على تويتر، ولا يمثّله ستيف لازاريدس أو أي معرض تجاري آخر".
ولأنّ أصحاب المعرض الحالي لا يملكون أية أعمال أصلية قاموا بنسخ أكثر من 150 عملًا خصيصًا لهذه المناسبة، وللالتفاف على الجانب الأخلاقي زعموا أنهم يقومون بتكريم هذه التجربة. ولنا أن نتوقع أنه كلما قلّت الأخلاق في أمر ازداد الكلام عنها، لأن في الكلام الأخلاقي بديلًا ممكنًا لتغطية الغياب الفعلي للأخلاق. أما التكريم المزعوم فيحتاج إلى 18 يورو ثمنًا لبطاقة الشخص الواحد لقاء قضاء نصف ساعة فقط بين الأعمال، المنحولة بالطبع، مع أن الزائر يستطيع بأقل من هذا المبلغ قضاء الوقت الذي يشاء في أي متحف، مع الفارق الجوهري أن تجوال المتحف بين أعمال أصيلة.
لا جديد في استغلال هذا الفنان المتمرد. فلطالما استُخدِمت أعماله للدعاية التجارية لصالح منتجات هو أكثر من يقف ضدها، وهو موقف يطرح علينا مرةً أخرى طريقة الرأسمالية في ابتلاع نقّادها، أو كما يقول الساخرون إن الرأسمالية هي أكثر من استفاد من نقد كارل ماركس.
المعرض المستمر في "غاليريا كاوفهوف" (مول تجاري أعلنت فروعُهُ في هامبورغ إفلاسها في فترة الجائحة!!) حتى 11 كانون الأول/ديسمبر 2022، شاهده في جولاته السابقة حوالي 600000 زائر دفعوا هذا المال، وقبلوا هذا الشرط، وساهموا في إهانة هذا الفنان.