"ياو ياو" العبارة التي تبدو إليك من الوهلة الأولى بلا معنى، لكن ثمة من ينتظرها بشوق ولهفة، في سياق لغة "الراندوك" الشعبية، الأكثر تعبيرًا عن أدبيات الثورة السودانية وحمولاتها الثقافية، إلى درجة احتلت مِزاج الشارع السوداني مؤخرًا، ودخلت قاموس السياسة، من باب خلفي، كونها الشيفرة السرية لفتح مغاليق الشارع، حتى أن رئيس المجلس العسكري الفريق عبد الفتاح البرهان، اضطر لاستعارة بعض التعابير من لغة الراندوك، في خطابه التلفزيوني الأخير الذي حيا فيه الثورة، والثوار.
ثمة من يرى بأن لغة الراندوك، هى لغة الفقراء أو الطبقات المسحوقة، التي ثارت في وجه سُلطة البشير، تحديدًا أبناء الهامش الذين زحفوا إلى أطراف المدن، أو هامش المدن الذي يفتقر سكانه للخدمات الضرورية
أطل جيل جديد من السودانيين تمرد على الماضي، في الأزياء واللغة والأغاني، وكافة الأشكال الثقافية، للتعبير عن كينونته، واتخذ مسارًا مغايرًا في كل تفاصيل حياته، ليبدو ربما حريصًا على الحفاظ على خصوصية الثورة السودانية، باعتبارها منتجًا شبابيًا خالصًا، ضمن مكاسب هذا الجيل، لتبدو كما لو أنها ثورة شاملة.
اقرأ/ي أيضًا: جداريات الثورة السودانية.. الخرطوم تحتفي بشهدائها
لغة أسفل المدينة
ويعتبر الراندوك لغة أسفل المدينة، كما يصفه البعض، إذ يستخدم بصورة واسعة في ما يعرف بالأغاني الهابطة، ويتداولها أبناء الشوارع كثيرًا، وأحيانًا أبناء المهن الحرفية الواحدة في ثرثراتهم وأحاديثهم الخاصة. وأهم ما يميز الراندوك أنه يحمل دلالات شعبية، ويتسم بالعفوية وتحوير الكلمات والألفاظ، من خلال بتر الحروف وإعادة ترتيبها، أو زيادتها، لتكتسب نوعًا من الغرابة، ومعاني عصية على الفهم، وهو المقصود في حد ذاته تقريبًا، أي أن لا تكون مفهومة للعامة، وتأخذ صفة الخطاب السري في الموضع العام، وهذا غالبًا السبب الذي دفع رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان للاستعارة من تلك اللغة، بتحية من أسماهم بـ"ناس الرصة ، الراسطات، والسانات، تحية للناس الوقفت قنا" على حد تعبيره.
الهامش يتحدث
ثمة من يرى بأن لغة الراندوك، هى لغة الفقراء أو الطبقات المسحوقة، التي ثارت في وجه سُلطة البشير، تحديدًا أبناء الهامش الذين زحفوا إلى أطراف المدن، أو هامش المدن الذي يفتقر سكانه للخدمات الضرورية، والتواصل المباشر مع العالم. إلا أن الكاتب والشاعر السوداني محفوظ بشرى ينظر إلى هذه اللغة بتفهم عميق، كونها تعبير عن الصراع الثقافي والطبقي، أو العراك المستمر بين المركز والهامش، وإن كان أيضًا يفسر ظهور هذه اللغة كردة فعل على اللغة والثقافة التي نشرها حكام السودان الجُدد.
وكتب بشرى مقالًا على مجلة الحداثة السودانية أشار فيه إلى أن الممارسة اللغوية اليومية تحولت إلى ميدان مقاومة لا واعٍ في مواجهة السلطة ولغتها، وقال محفوظ إن اللغة أخذت مكانها ضمن الحركة الكلية للصراع، لذا يلاحظ أن هناك فجوة واسعة بين اللغة الرسمية واللغة اليومية، منبهًا إلى أن اللغة الجديدة للشارع وأجياله الحديثة تصف كل الخطاب الرسمي بأنه "طلس"، أي الكذب المتعمد بغرض التشويش على الحقيقة. مشيرًا أيضًا إلى صراع آخر اضطرم بين اللغات الجديدة في ما بينها، لغة اليومي المهادنة للأكثرية التي تأثرت تأثرًا كبيرًا بروح اللغة الرسمية، ولغات الرندوك التي تتحدثها الأجيال الجديدة، وبين اللغة التي اصطلح عليها بلغة "المثقفاتية" وهو وفقًا لمحفوظ بشرى، وصف بدأ تحقيريًا للمثقفين الذين كانت مفاهيمهم مفارقة للسائد إبان موجة الأسلمة الأولى، قبل انسحابه على فئات مدعي الثقافة والمثقفين خارج التفاعل الواقعي لاحقًا.
أسياد الرصة والمنصة
"ياو ياو سلمك بارفيك ملوك الصبات واسياد الرصات، العدو وراك، أعمل ميت.. لجان الأحياء قفل الفرقة صح وغلش، يجي خفيف ولطيف ومن غير بلاغات". بهذه اللغة ابتدر تجمع المهنيين السودانيين بيانه الأخير الذي دعى فيه للتصعيد، مع شرح وافٍ تكفل به بعض أنصار التجمع للذين استعصت عليهم لغة البيان، رغم أن فئات بعينها أراد التجمع مخطابتها، وتحريضها على التظاهر والتصعيد، في الأحياء وأقاصي المدينة، وهي ليست المرة الأولى التي يقوم فيها تجمع المهنيين السودانيين بالكتابة على رقاع لغة الراندوك، في محاولة لتجنب الاستعلاء الثقافي، ومخاطبة المجتمع بلغة بسيطة، تطرب كثير من فئاته، على شاكلة "الحل في البل، وقام بالليل".
اقرأ/ي أيضًا: حميدتي.. البدوي الذي لا نحبه!
في ميدان الاعتصام قبيل أن يقوم مجلس العسكر بفضه كانت اللغة الجديدة هي الوسيط الذي يخضع له الجميع فلا أحد بإمكانه التساؤل عن عبارات مثل (صابنها، وجرجرة العسكر، ومدنياو) والأخيرة، أي مدنياو، هي الأكثر تداولًا بين الشباب، وتعني تقريبًا "الحكومة المدنية الآن". كما أن نجومًا جدد خرجوا من وسط هذه اللغة مثل "دسيس مان" أحد أشهر الثوار، وصاحب فيديوهات غزت الفضاء السوداني بكثافة، كما أنه يعتبر شاعر ميدان الاعتصام بلا منازع، والأكثر التصاقًا بهموم الناس العاديين ويومات الثورة، ويعبر عن مطالب المحتجين، وحالات الصدام بين المجلس العسكري وأنصار تجمع المهنيين.
أطل جيل جديد من السودانيين تمرد على الماضي، في الأزياء واللغة والأغاني، وكافة الأشكال الثقافية، للتعبير عن كينونته، واتخذ مسارًا مغايرًا في كل تفاصيل حياته، ليبدو ربما حريصًا على الحفاظ على الثورة باعتبارها منتجًا شبابيًا
كاتب بيانات الراندوك
وكان تجمع المهنيين السودانيين كشف في وقتٍ لاحق عن كاتب بيانات الراندوك التي ظهرت منذ بداية انطلاق المظاهرات، والمواكب الجماهيرية، حيث ظل يتخفى وراء اللغة الغامضة التي أجاد غزلها وتحريرها ومنحها بعدًا سياسيًا، وهو مهند حامد، نائب اختصاصي في علم الأمراض بجامعة الخرطوم، ويرى مهند إن اختياره اللغة الجديدة في الحشد كان تعبيرًا عما يطلبه الشارع، الذي بدا معزولًا عن اللغة العربية الفصحى التي كانت تكتب بها بيانات الحراك الثوري، وفقًا لكثير من الملاحظات، وباتت عصية على الناس العاديين، وما فتئ الشارع يطرح الاسئلة حول معانيها والمطلوب منها بالتحديد، وهو الأمر الذي انتفى مع ظهور بيانات اللغة الجديدة في الصفحة الرسمية، بحيث إنها وجدت قبولًا منقطع النظير، وانسحبت حتى على طلاب المدارس والجامعات، والأطفال بصورة لافتة في الآونة الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا:
الجنود السودانيون في اليمن.. ضحايا صفقة المجلس العسكري مع الرياض