لا يمكن الحديث لحد اللحظة عن زلزال تركيا وسوريا الأخير، والذي لم نتفق بعد عن تسمية محددة له، وكأنه حدث بصدد التراجع شيئًا فشيئًا نحو خانة الذكرى، ذلك أننا لا نزال تحت وطأة صدمته ومسكونين بالخوف من ملحقاته من رجات ارتدادية، والأهم أنّ لنا كثيرين لا يزالون لحد اللحظة تحت الأنقاض في انتظار العون والنجدة. ولكن رغم كل هذا فإن التدبر في الزلازل إنسانيًّا وروحيًّا وفكريًّا، هو شعور طارئ وسؤال ملح سرعان ما يفرض نفسه على العقل والضمير والإيمان معًا.
هنا، نضرب مثالين متضاربين، عن فعل الزلازل في الفكر الجمعي للشعوب وتأثيره فيها من خلال تجربتي بلاد المغرب الكبير نهاية العصر الوسيط وزلزال لشبونة سنة 1755.
الزلازل.. في مجتمع مسكون بالخوف
في تشرين الأول/أكتوبر 2016 صدرت بالفرنسية دراسة للمؤرخ عادل لطيفي، سرعان ما تمت ترجمتها تحت عنوان "الخوف ببلاد المغرب في العصر الوسيط"، سعى صاحبها من خلالها ومن خلال دراسة المآسي والنوائب والمصائب والكوارث التي تعصف بالمجموعات البشرية إلى الإبانة عن مواصفات الذهنية والعقلية العربية الإسلامية وملامحها ومركباتها ومدى إدراكها ووعيها (1). ومن جملة الهواجس و"الفوبيات" متنوعة الأصناف التي أرقت العقل والمجتمع المغاربي خلال تلك الفترة نجد الأوبئة والكوارث وعلى رأسها الزلازل، وقد خصص لها فصلًا كاملًا. صحيح أن هذا الحيز الجغرافي ليس مجالًا زلزاليًا نشطًا إلى أن التوثيق في العصر الوسيط حدثنا عن وقوع أربع زلازل أهمها زلزال تونس 1448 (2).
سنة 1755، شهدت مدينة لشبونة عاصمة الإمبراطورية البرتغالية الاستعمارية السابقة، زلزالًا هائلًا أتى على ما تبقى من إرث تلك الفترة المزدهرة وأودى بحياة حوالي 55 ألف شخص
صورة الزلازل لدى الطبقات المثقفة والمتعلمة في تلك الفترة كانت مبنية على تمثل مزدوج لها، إذ لم ينف عنها الفقهاء والعلماء صفة "الكارثة" بما يعنيه ذلك من أصل طبيعي لهذا الحدث، ولكن في المقابل لم يقع إغفال دور الآثام والفساد والمعاصي التي يرتكبها المسلمون (ومعهم أهل ذمتهم طبعًا) في استجلاب هذه الآفة والتسريع في وقوعها. وفي قائمة خماسية عجيبة يقع ربط كل كارثة من الكوارث الخمس الكبرى بمعصية محددة وبخصوص الزلازل نجد أن مسببها هو الربا (3). هذا الربط الدائم للزلازل وغيرها بجملة من المعاصي والذنوب والآثام الجمعية، يعود أساسًا حسب المؤلف لعامل الخوف والهلع والرعب الذي يحل بضحايا هذه الكوارث ويتسبب في إحداث رجة ضمن معتقدات الأفراد وإيمانهم، وهنا ينتقل الخوف والرعب إلى أنفس الفقهاء ورعاة الإيمان الجمعي الذين يعاينون مثل هذا التهديد "لمعاقل" نفوذهم ووجودهم في المجتمع، الذين مع إدراكهم لوجود حد من المسببات العلمية والطبيعية لهذه الآفات، إلا أنهم لا يقترحون كحلول للمواجهة أو التصدي سوى "التسليم بالقضاء والقدر والقبول بالمشيئة الإلهية".
في آخر العصر الوسيط، وفي مغرب كبير منهك بالحروب والتمزق والمجاعات والزلازل ومسكون بهواجس الخوف من كل شيء، يمسي التفكير عبئًا وخوفًا آخر لا يقدر الإنسان على حمله.
لشبونة.. وآخر هزات النعش
سنة 1755، شهدت مدينة لشبونة عاصمة الإمبراطورية البرتغالية الاستعمارية السابقة، زلزالًا هائلًا أتى على ما تبقى من إرث تلك الفترة المزدهرة وأودى بحياة حوالي 55 ألف شخص. أمام هذا الحدث المأساوي والمهول سرعان ما تعالت أصوات اليسوعيين المعارضين وقتها لتحديث المملكة، منددة بآثام الناس والحكام الذي تخلوا عن تعاليم الكنيسة وتوجهوا نحو الأفكار الجديدة القادمة من قلب أوروبا تلك الفترة، وفي مقابل هؤلاء، عندما سئل الماركيز دي بومبال الحاكم للبرتغال الذي سعى منذ 5 سنوات لإلحاق المملكة بركب التحديث والتنوير المتصاعد وقتها، عن سبب الزلزال وماهيته وعما يجب فعله، لم يزد عن أن أجاب بجملة مختزلة بقيت مقترنة بإسمه للآن: "ادفنوا الموتى واطعموا الجوعى". إجابة بومبال السريعة تلك، عكست توجها عمليًا وعقلانيًا يستكرس مع العقود ويؤكد ضرورة التعامل مع الزلازل وغيرها.. كحدث طبيعي تعالج آثاره بطرق وآليات ملموسة وعملية بقطع النظر عن ربطه بمسببات ما ورائية ولاعقلانية.
زلزال البرتغال هذا، لم يقتصر أثره على البلد المنكوب ذلك، لكنه مثّل صدمة وزلزالًا هز كامل القارة الأوروبية التي كانت تحيا وقتها ضمن الفترة الأخيرة لعصر التنوير، قبل الانتقال لما بعدها. هز زلزال لشبونة كلًّا من الفلاسفة التنويريين واللاهوتيين، وقدم للتنوير دفعة جديدة كان سؤالها الأبرز: هل الإله حقًّا رحيم، وإن كان رحيمًا حقًا فلمَ لمْ يحم رعاياه من مثل هذا المصير المأساوي؟
لم يكن هذا التساؤل والذي رفعه وحاجج به عاليًا خاصة الفيلسوف الفرنسي فولتير، موجهًا لللاهوتيين ورجال الدين فقط، وإنما وجهه أساسًا للفلسفة التفاؤلية التي سادت منذ مطلع القرن على يد الفيلسوف لايبنيتز، واقتضت بأن مصير الإنسانية دائمًا ما يسير نحو الأفضل، وأن كل فعل إنما يحقق الخير وأن الإله خير وإرادته دائمًا ما تقتضي الخير للبشرية (4).
معركة فولتير هذه، امتدت لتشمل غيره من الفلاسفة ورجال الفكر وقتها، بل وفي تاريخه الشامل خصص ويل ديورانت فصلًا كاملًا أطلق عليه عبارة "لاهوت الزلازل" لوصف هذه الثلمة التي انفتحت في جدار التدين المسيحي: أيعقل أن الرب يعاقب رعاياه في عيده المقدس هذا "يوم القديسين"؟ ولو أن الزلزال كان عقابًا على ما حل بالمذنبين نتيجة معصيتهم كيف يمكن لنا أن نفسر سبب مقتل الكثيرين من الرهبان والقسيسين في الكنائس والأديرة يومها؟ أرهقت تلك الأسئلة فولتير نفسه ولم يجد مناصًا منها سوى الإقرار بتلك الحقيقة المأساوية للصراع البيولوجي المدمر والتراجيدي للكائنات الحية وليكتب "وهكذا تئن الدنيا بكل من فيها حيث ولدت كلها لتشقى وتعاني، ويكون مصيرها الموت المتبادل. وفي هذه الفوضى القاتلة تبنى على تعاسة البعض سعادة المجموع، أية سعادة هذه؟ أيها المخلوق الفاني الضعيف البائس، أنك تصبح في نعمة حزينة "إن كل شيء حسن على ما يرام" إن الكون يقدم الكذبة، وقلبك يفند مائة مرة خطأ ذهنك. إن العناصر والحيوان والإنسان كلها في صراع. فلنعترف بأن الشر ملأ الأرض واستشرى فيها" (5).
في الزمن الراهن، زمن الأقمار الصناعية ومقاييس الزلازل الدقيقة وكثيرة الأسماء وفي زمن الإيمان الحر والمتصالح مع العلم ووقائعه ومعادلاته، تبدو نظرتنا للزلازل وغيرها مختلفة تمام الاختلاف
لم تشف مأساوية فولتير تلك الجراح ولكنها مهدت السبل أكثر نحو التقبل العلمي والعملي للزلازل كحدث طبيعي مرتبط بمسببات واقعية. ولم تقنع كذلك غيره من الفلاسفة مثل جون جاك روسو الذي عده نتيجة لخطيئة هي خطيئة إنسانية هذه المرة، تمثلت في تخل الإنسان على الحياة الطبيعية وقبوله بالانخراط في الحضارة والتمدن (6). ولكن الأكيد أن زلزال لشبونة نكأ الجراح وأعاد تغيير رؤى وتمثلات الكثيرين للطبيعة وكوارثها وللعالم وللإله.. وبطبيعة الحال كن له الأثر الأكبر، في بروز "كانديد" أحد أبرز أعمال فولتير والإنسانية للضوء!
على سبيل الخاتمة.. بأي معنى نتمثل الزلازل اليوم؟
في الزمن الراهن، زمن الأقمار الصناعية ومقاييس الزلازل الدقيقة وكثيرة الأسماء وفي زمن الإيمان الحر والمتصالح مع العلم ووقائعه ومعادلاته، تبدو نظرتنا للزلازل وغيرها مختلفة تمام الاختلاف. قد تعلمنا هذه الرجات، التصالح مع واقع الصفائح التكتونية وحتمية آثار تحركاتها المدمرة والتسليم بكونها جزءًا من منظومة طبيعية متكاملة تستوجب اتخاذ ما يلزم من احتياطات سلامة عمرانية وإغاثية بخصوصها، بعيدا عن كل أشكال العذابات والآثام الجماعية. ولكن في المقابل، فإنها تعلمنا أيضًا درسًا تناساه إنسان الحداثة، في جملة ما تخلى عنه من أخلاقيات وأديان ألا وهو درس التواضع في مقابل عظمة هذا الكون والعالم والإحساس بالانتماء له لا التسيد عليه. وبأننا جزء منه يفترض فينا التناغم معه لا ازدراءه والتعامل معه كأصل أو مورد قابل للاستبدال.
هوامش:
- محمد العادل لطيف، الخوف ببلاد المغرب في العصر الوسيط، دار زينب للنشر، تونس 2019، ص15
- المرجع السابق، ص278
- المرجع السابق، ص269
- EDGAR S. BRIGHTMAN, The Lisbon Earthquake: A Study in Religious Valuation, The American Journal of Theology, Vol. 23, No. 4 (Oct., 1919), p. 501
- ويل ديورانت، قصة الحضارة، المجلد التاسع، الجزء 38، دار الجيل 1988، ص172
- المرجع السابق، ص174