كتب مالارميه: "كل ما يحدث ينتهي في كتاب"، وفي صياغة أكثر تطرفًا: "كل ما يحدث إنما يحدث لينتهي في كتاب".
بعد سنوات من الآن سوف يأتي شخص ما ليقرا كتابًا ما عن زلزال سوريا وتركيا الفظيع. يتمدد مسترخيًا على كنبته ممسكًا بالكتاب في يد وفي اليد الأخرى سيجارة. ربما يضجر فيرمي الكتاب جانبًا، ربما يشعر بالنعاس فيسقط الكتاب من يده، وربما يقرأ بشغف وحماس فما أن ينتهي حتى ينصح آخرين بهذا الكتاب "الشيق والممتع".
ولكن حتى ذلك الوقت.. إلى أن ينتهي الأمر في كتاب ويأتي شخص ليقرأه، سيبقى الزلزال شيئًا فظيعًا.. فظيعًا وحسب.
الواقع أن الدرس الوحيد إثر زلزال مدمر هو عدم وجود أي درس، فما العبرة التي يمكن استخلاصها من هذا الموت المجاني وهذا الرعب الكثيف وهذا القنوط اللانهائي؟!
لا يصلح الزلزال مادة للكتابة الآن ولا يصلح كذلك مادة للتأمل. ووحدنا نحن المحكومين بسفك الحبر كل أسبوع من يسارع إلى التقاط الملاحظات وأخذ العبر واستخلاص الدروس..
والواقع أن الدرس الوحيد إثر زلزال مدمر هو عدم وجود أي درس، فما العبرة التي يمكن استخلاصها من هذا الموت المجاني وهذا الرعب الكثيف وهذا القنوط اللانهائي؟!
في شريط مصور طريف تدخل الكاميرا مستعمرة نمل، حيث تعيش النملات بسلام، تتحرك بنشاط وتتقافز بحبور. فجأة يحدث زلزال قوي. يدب الذعر وتعم الفوضى ويغدو الرعب سيد المكان والزمان. وما إن يهدأ الاهتزاز ويتوقف الاضطراب حتى يداهم النمل فيضان ماء مهلك يذكر بطوفان نوح. يعود الرعب ليخيم فوق المستعمرة وتتحول النملات الى أرواح عائمة تستميت من أجل البقاء.. ثم يشب حريق هائل يدفع النمل إلى مزيد من الخوف، يختلط الحابل بالنابل وتعلق النملات في حركة دورانية مجنونة، ثم تبدأ الحركة بالتباطؤ إذ تتعب الحشرات المنكوبة وتوشك على الاستسلام اليائس.
تبتعد الكاميرا رويدًا رويدًا، وإذا بما كنا نظنه مستعمرة كبيرة هو مجرد علبة نمل صغيرة بين يدي طفل. أجل لقد حزرتم: لقد كان الطفل وراء كل هذه المصائب. هو الذي صنع الزلزال بتقليبه العلبة شمالًا ويمينًا، إلى فوق وإلى تحت. وهو الذي دلق حفنة الماء التي صارت للنمل طوفانًا، وهو من أشعل عود ثقاب ليختبر ردة فعل هذه المخلوقات الصغيرة البائسة.
وماذا عن النمل في العلبة؟ أي درس عليه استخلاصه من هذه "اللعبة الطفولية البريئة"؟!
*
واكب الاعلام آثار الزلزال بكل تفاصيلها وصورها. إعلاميون كثر تحدثوا عن أولئك الذين تعاطفوا والذين لم يتعاطفوا، مؤكدين وجود صادات مؤسفة للتعاطف: حدود سياسية، أسوار أيديولوجية، موانع ثقافية..
كل هذا صحيح، على الأرجح صحيح. ولكن ثمة أمرًا آخر ربما يكون صحيحًا أيضًا: خط رفيع، بل وهمي، ولكنه صلد وباسق في الوقت نفسه. لعلنا نستطيع تسميته "خط الإنسانية". شيء ما يشبه خط الفقر الذي يعتمده الاقتصاديون في التمييز بين الأغنياء والفقراء والأكثر فقرًا. ولكن إضافة إلى عدد الدولارات ومقدار القوة الشرائية وكم السعيرات الحرارية.. يضاف هنا، في خط الإنسانية، مؤشرات من نوع آخر: عدد الصفعات التي يتلقاها الفرد كل يوم، كم الخذلان المتراكم فوق قلبه، كثافة اليأس في روحه، مقدار الخوف المعشش في عقله.. وكلما ارتفعت هذه المؤشرات انحدر الفرد أكثر إلى تحت خط الإنسانية.
قالت ماري كوري: "لا شيء في الحياة يستدعي الخوف، فقط هناك ما يستوجب الفهم. الآن أصبحنا أكثر حاجة للفهم لنصبح أقل خوفًا"
القابعون فوق خط الإنسانية هم فقط من يمتلكون القدرة على التعاطف، أما الرازحون تحته فإذا ما ضرب زلزال مكانًا ما، بعيدًا عنهم أو قريبًا منهم، فهم ببساطة يمكثون في انتظار دورهم، بقليل من الصبر وقليل من الضجر.. وكثير من اللامبالاة.
*
قالت ماري كوري: "لا شيء في الحياة يستدعي الخوف، فقط هناك ما يستوجب الفهم. الآن أصبحنا أكثر حاجة للفهم لنصبح أقل خوفًا".
حسن جدًا، نحن نريد أن نفهم من أجل التغلب على خوفنا. ولكن في الزلازل تحديدًا فإن المتاح لنا لنفهمه لا ينفع في أن يكون مجرد مسكن من عيار خفيف.
هل سيحدث زلزال جديد؟ ربما نعم وربما لا.
أين سيضرب الزلزال القادم؟ ربما في تركيا أو في سوريا أو في العراق أو في مصر أو في اليونان أو في الأردن..
ومتى سيحدث الزلزال إذا كان سيحدث؟ ربما اليوم وربما بعد سنة وربما بعد مئة سنة.
هل سيكون مدمرًا مثل هذا؟ نعم.. لا.. لا أحد يعلم.
هكذا يبدو الزلزال شأنًا ميتافيزيقيًا تكثر حوله الأسئلة المقلقة دونما إجابة واحدة حاسمة.
في رواية نيكوس كازنتزاكي الشهيرة، يطرح زوربا على رب عمله المثقف بعضًا من أسئلة الوجود الكبرى: من أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟ ولم كل هذا؟.. يقول له: أنت تقرأ الكثير من الكتب، فماذا تقول لك كتبك؟ أريد أن أفهم.
يجيب المثقف متلعثمًا: إنها لا تقول أشياء محددة، لا تقدم إجابات حاسمة، هي تطرح أسئلة أكثر من أن تقدم أجوبة..
يرد زوربا: إذًا فإلى الجحيم أنت وكتبك.